هل تخدعنا أدمغتنا لرؤية ما نظن أنه الواقع؟

منذ 11 ساعات
هل تخدعنا أدمغتنا لرؤية ما نظن أنه الواقع؟

حدود الإدراك البشري بين الواقع والوهم، استناداً إلى كتاب جديد لعالم أعصاب بريطاني.

في كتابه “خدعة العقل: كيف يُشكّل الدماغ إدراكنا للعالم”، يستكشف عالم الأعصاب والمعالج النفسي البريطاني دانيال يون إحدى أهم النظريات المعاصرة في علم النفس المعرفي: “المعالجة التنبؤية”. تُقلب هذه النظرية المفهوم التقليدي للإدراك رأسًا على عقب. فبينما نعتبر الإدراك عملية تلقائية تحدث بمجرد أن نفتح أعيننا، ويسقط علينا الضوء، وينكشف لنا العالم من حولنا، يُبيّن يون أن الدماغ يتجاوز ما يتلقاه من حواسنا، بل يلعب دورًا فعالًا في تشكيل تجربتنا الإدراكية من خلال سد الثغرات الناتجة عن المعرفة والتوقعات السابقة.من الأمثلة الواضحة على ذلك ما يُسمى “النقطة العمياء” في كل عين، وهي منطقة خالية من المستقبلات الضوئية. ومع ذلك، لا نُدرك أي فراغ في مجال رؤيتنا لأن الدماغ يُعوّض هذا النقص. الإدراك البصري، وفقًا ليون، ليس مجرد انعكاس للواقع، بل هو نموذج داخلي مُحدّث باستمرار يجمع بين المعلومات الحسية الحالية والمعرفة المُخزّنة سابقًا. وهذا يُؤدّي إلى المقولة المُذهلة لعلم الإدراك الحديث: “الإدراك ليس سوى هلوسة مُحكمة التكوين”.في الماضي، لجأ طلاب علم النفس إلى كتابات سيغموند فرويد، الطبيب النمساوي ومؤسس علم النفس الحديث، لفهم النفس البشرية. أما اليوم، فتُعتبر نظرية “المعالجة التنبؤية” من أهم الإسهامات في هذا المجال. يقدم يون هذه النظرية بأسلوب بسيط وعميق، مستلهمًا خبرته كباحث رائد في هذا المجال ومؤلف، بلغة واضحة ومميزة. ينظر يون إلى الدماغ كـ”عالم محاصر داخل الجمجمة البشرية”، يصوغ باستمرار فرضيات ويجمع بيانات لاختبارها.الكتاب مليء بالتجارب العلمية المذهلة التي تمثل نقلة نوعية في فهمنا للإدراك. كان ينبغي أن تكون هذه التجارب متاحة لعامة الناس خارج حدود المجلات الأكاديمية. ومن أبرز هذه الدراسات تجربة أجريت عام 2017 في جامعة ييل قارنت عينة من الأشخاص الذين ادعوا سماع أصوات خارجية تتحدث إليهم فقط – سواء لأسباب نفسية أو دينية – مع مجموعة أخرى لم تعاني من هذه الظاهرة. وقد تبين أنه من السهل تدريب المشاركين على تجربة الهلوسة السمعية عند عرض نمط بصري بسيط، ولكن أولئك الذين سمعوا أصواتًا بالفعل اعتمدوا بشكل أكبر على تجاربهم السابقة لتشكيل إدراكاتهم. بعبارة أخرى، فإن الاستعداد العقلي لسماع ما لا يُقال موجود لدى الناس بدرجات متفاوتة ويمكن أن يؤثر بعمق على حياتهم.في تجربة أخرى، نجحت هيلين سكوت، طالبة الدكتوراه لدى يون، في التأثير على تقييم المشاركين لدقة الصور المتحركة التي شاهدوها. أفاد من تأثروا بوهم الصور الضبابية بانخفاض في دقتها، رغم ثباتها. وهذا يُظهر بوضوح قوة التوقع أو الإيحاء في تشكيل التجربة الحسية.على الرغم من القيمة العلمية للكتاب، قد يجد بعض القراء أن يون لم يستكشف بشكل كافٍ بعض الأسئلة الفلسفية الأساسية. على سبيل المثال، هل تغير إدراك المشاركين لوضوح الصورة بالفعل، أم أن تقييمهم للتجربة هو الذي تغير؟ هل هناك فرق واضح بين الإدراك والتقييم؟ كما أن يون لم يتناول التحديات النظرية لفرضية “المعالجة التنبؤية”، وخاصةً فيما يتعلق بالفكر المجرد. كان من الممكن أن تُثري هذه المواضيع النقاش؛ لكن تجاهلها يُعدّ فشلاً في العرض التحليلي.ومع ذلك، يُحقق الكتاب أحد أهم أهداف الكتابة العلمية التثقيفية: إلهام القارئ بمنظور مختلف للعالم. ووفقًا ليون، فإن التأمل الذاتي ليس موثوقًا به تمامًا؛ فقد نرى أنفسنا بشكل مختلف عن الآخرين، والحدود بين الاعتقاد والإدراك أكثر ضبابية مما نظن. حتى نظريات المؤامرة قد تكون نتاجًا تطوريًا لعقل يبحث عن تفسيرات غير مألوفة في أوقات الشك والخوف.باختصار، يُقدّم كتاب “خدعة العقل” موضوعًا علميًا مُعقّدًا بأسلوب شيّق وجذاب، يجمع بين البحث الدقيق والعرض السلس. ويُقدّم مساهمة فريدة في تبسيط مفاهيم علم النفس المعرفي الحديث للقراء من ثقافات مُتنوّعة.


شارك