الولادة في مصر: بين القيصرية والطبيعية.. قرار جديد ومعركة وعي

وسط مخاوف متزايدة بشأن زيادة حالات الولادة القيصرية، أعلنت وزارة الصحة والسكان أن مصر تحتل المرتبة الأولى عالميا في معدلات الولادة القيصرية، حيث تصل إلى 72% من إجمالي الولادات، وهو رقم يفوق بكثير المعدلات الموصى بها عالميا.
في ظل هذا الواقع المقلق، أصدرت الوزارة قرارًا جديدًا بتشديد الرقابة على المستشفيات. والهدف هو الحد من اللجوء غير المبرر إلى العمليات القيصرية، وزيادة فرص الولادة الطبيعية، إذ تُعد الولادة الطبيعية الخيار الأكثر أمانًا في معظم الحالات الصحية.
أشعل هذا القرار الجدل مجدداً حول فقدان الثقة في الولادة الطبيعية. يرى البعض أن هذه الخطوة متأخرة جداً بعد سنوات من الفوضى التي شهدتها عمليات الولادة القيصرية. مع ذلك، تُعرب العديد من النساء عن خوفهن العميق من الولادة الطبيعية، لا سيما في ظل انتشار تقارير عن ممارسات غير إنسانية كالعنف التوليدي، وفتحات العجان غير الضرورية، أو خياطة الزوج. كما يدفع الخوف من المخاض البعض لاختيار الولادة القيصرية باعتبارها الخيار “الأكثر رحمة”، رغم المخاطر الصحية المرتبطة بها على الأم والطفل.
علاوة على ذلك، تدفع المفاهيم الخاطئة الشائعة والمفاهيم الطبية الخاطئة في المجتمع العديد من النساء إلى الاعتقاد بأن الولادة الطبيعية مستحيلة على أجسادهن أو تُشكل خطرًا لا مفر منه. وهذا يزيد من الإحباط ويحد من حرية الاختيار لمن يُفضلن الولادة الطبيعية.
* خطوة نحو السيطرة على فوضى الولادات القيصرية
قالت الدكتورة هند عبد السلام، طبيبة عامة واستشارية الحمل والولادة ومؤسسة برامج وأنظمة المستشفيات للولادة الطبيعية، لـ«الشروق»، إن قرار وزارة الصحة الأخير يهدف في المقام الأول إلى مراقبة المستشفيات بعد الارتفاع الكبير في معدل الولادة القيصرية في مصر مقارنة بالمتوسط العالمي.
وأوضحت: “الولادة القيصرية لم تُلغَ. في بعض الحالات، تكون ضرورية، لكن الهدف هو الحد من إساءة استخدامها. في الآونة الأخيرة، ظهرت بعض الظواهر التي تنم عن استهتار، مثل جدولة الولادة القيصرية في مواعيد خاصة أو أعياد، مما يؤدي إلى ولادات مبكرة، وولادة أطفال خدّج، واكتظاظ دور الحضانة”.
وتابعت: “من أهم الأدوات التي استحدثتها الوزارة مخطط الولادة، وهو مخطط رصد دقيق يُسجل تطور حالة الأم والجنين لحظة بلحظة. يسمح هذا باتخاذ القرارات الطبية بناءً على بيانات واضحة: هل الولادة الطبيعية لا تزال ممكنة، أم أن الولادة القيصرية ضرورية بشكل عاجل؟ هذا يحمي الأمهات من كلا الجانبين: فهو يمنع الولادات القيصرية غير الضرورية ويضمن التدخل السريع في الحالات الخطرة. لذلك، يحق لكل أم طلب مراجعة تقييمها والتساؤل: ما هو السبب الحقيقي للولادة القيصرية؟ وما هي البدائل المتاحة؟”
بالإضافة إلى ذلك، تعتمد منظمة الصحة العالمية على نظام تصنيف روبسون للولادات القيصرية. يُحلل هذا النظام بيانات جميع المستشفيات لتحديد أسباب ارتفاع المعدلات. على سبيل المثال، يُمكنه تحديد ما إذا كانت المشكلة ناجمة عن تكرار الولادات القيصرية، وما إذا كانت الولادات المهبلية بعد الولادة القيصرية (VBAC) مدعومة.
*لماذا تخاف بعض النساء من الولادة الطبيعية؟
وتوضح الدكتورة هند أن ارتفاع معدل الولادة القيصرية في مصر مقارنة ببقية دول العالم يرجع إلى عدة أسباب متداخلة، تتراوح بين عدم وعي المرأة بحقوقها أثناء الولادة، إلى القصور في النظم الطبية والاجتماعية.
وتضيف أن العديد من النساء يعتبرن الولادة الطبيعية “شبحًا” أو “جنًا” يُخيفهن، ولذلك يلجأن أكثر فأكثر إلى الولادة القيصرية لأنها أسهل وأكثر أمانًا: “الأمهات لا يعرفن كيفية الولادة، وما هي التغيرات التي تطرأ على الجسم، وما هي مراحل المخاض، وما هو دورهن الحقيقي. ليس لديهن صورة كاملة، وفي أذهانهن، لا يبقين سوى مشاهد سينمائية: صرختان ويولد الطفل”.
تتأثر العديد من النساء أيضًا ببيئتهن. يضغط عليهن بعض الأزواج والعائلات للخضوع لعملية قيصرية، مما يزيد من خوفهن، فكل ما نجهله يصبح كابوسًا في أذهانهن. وأكدت أن معرفة المراحل الطبيعية للولادة تُخفف من الخوف وتُعيد الثقة بقدرة الجسم على أداء دوره.
* نمط الحياة الحديث = عضلات غير مدربة
تعتقد الدكتورة هند أن جزءًا كبيرًا من أزمة الولادة الطبيعية يرتبط بتغييرات نمط الحياة. ففي الماضي، كان المخاض يعتمد على المجهود البدني والحركات اليومية الطبيعية، كالقرفصاء أثناء العمل في الحقول أو تنظيف المنزل، لتهيئة جسم المرأة للولادة.
تتضمن معظم الوظائف المكتبية في الوقت الحاضر الجلوس لفترات طويلة تحت ضغط نفسي ودون نشاط بدني كافٍ، مما يعني أن العضلات أقل استعدادًا لضغوط الولادة.
تُشير إلى أنه في الثقافة السائدة، لا يزال يُنظر إلى ممارسة الرياضة أو النشاط البدني أثناء الحمل على أنه ترف أو رفاهية. علاوة على ذلك، هناك اعتقاد سائد بأن على المرأة الحامل قضاء معظم وقتها في السرير. في الواقع، تُعدّ ممارسة الرياضة المناسبة والسليمة للمرأة الحامل جزءًا أساسيًا من تقوية الجسم والتحضير لولادة طبيعية أفضل وأسهل.
*لماذا يفضل الأطباء عملية الولادة القيصرية؟
توضح هند أن أسباب اختيار الأطباء للولادة القيصرية مفهومة: فهي أسهل وأسرع، وتُمكّن الأطباء من تحديد المواعيد بدقة أكبر، وتُجنّبهم زيارة قسم الطوارئ، وتُولّد المزيد من الأطفال في وقت أقصر. ومع ذلك، تُسبب هذه العملية العديد من الأطفال الخدّج الذين يعانون من صعوبة في التنفس والرضاعة الطبيعية، بينما تُعرّض الأمهات لمضاعفات خطيرة مثل التصاق المشيمة في حالات الحمل اللاحقة.
وتتابع: “التعليم الطبي في مصر ليس متقدمًا بما يكفي. مع انتهاء الولادات الطبيعية، فقد العديد من الأطباء مهاراتهم. ربما كان بعضهم يُجري الولادات الطبيعية كأطباء متدربين، بينما ينظر أساتذتهم إلى الولادات الطبيعية على أنها مهنة للمبتدئين ويفضلون الجراحات الكبرى. والنتيجة: فجوة كبيرة في التدريب العملي”.
وفي بلدان أخرى، تتولى القابلات، بعد أربع سنوات من التدريب المتخصص، رعاية معظم الولادات الطبيعية البسيطة، ويقتصر دور الطبيب على التدخل في حالات المضاعفات.
وتعتقد هند أن الحل يكمن في إنشاء فرق طبية متكاملة، تضم ممرضات بديلات وممرضات متخصصات، لجعل الولادة مسؤولية مشتركة، وإعطاء الأمهات المزيد من الخيارات للولادة الطبيعية، والسماح للأطباء تدريجيا باستعادة مهاراتهم بدلا من الاعتماد بشكل شبه حصري على العمليات القيصرية.
* طبيب النساء ليس هو المرجع الوحيد
أشارت إلى أن العديد من النساء يعتبرن طبيب/طبيبة النساء جهة الاتصال الوحيدة لهن أثناء الحمل. إلا أن هذا الاعتقاد خاطئ. يتخصص أطباء/طبيبات النساء في الجراحة ويركزون على مراقبة الحمل والتدخل عند ظهور أي مشاكل. ومع ذلك، لا يتلقون تدريبًا متخصصًا في مجالات مثل إعادة تأهيل العضلات أو التغذية قبل الولادة.
لذا، تتطلب الرعاية الكافية بعد الولادة تكامل عدة عناصر: طبيب أمراض نساء للجوانب الطبية؛ وأخصائي تغذية لتحديد النظام الغذائي المناسب؛ ومدربة تمارين رياضية معتمدة قبل الولادة وبعدها؛ وقنوات للدعم التعليمي والنفسي والعملي. تجدر الإشارة إلى أن الاعتماد على الطبيب وحده يُخلّف فجوة واضحة في المعلومات والدعم الذي تحتاجه المرأة الحامل.
* نقص المعدات في المستشفيات
وتشير هند إلى أن أحد أكبر العوائق هو عدم توفر المعدات اللازمة للولادة الطبيعية في المستشفيات.
رغم ارتفاع تكاليف المستشفيات الخاصة، يفتقر الكثير منها إلى أدنى معايير الولادة الطبيعية الآمنة. فكثيرًا ما تكون أجهزة مراقبة نبضات قلب الجنين الحديثة، وبنوك الدم، ووحدات العناية المركزة للأمهات غير متوفرة. وأحيانًا، ورغم انخفاض التكاليف، لا يتوفر أطباء التخدير أو أطباء الأطفال على الإطلاق.
هذه الفجوات تعني أن حتى المرض البسيط قد يتحول إلى حالة طارئة تهدد حياة الأم أو الطفل. يتحمل الأطباء الراغبون في إجراء ولادة طبيعية المسؤولية بمفردهم، ويفتقرون إلى الدعم المؤسسي.
لهذا السبب، تُفضّل الكثيرات الولادة القيصرية كخيار أكثر أمانًا لأنفسهن وللمستشفى. فالولادة الطبيعية ليست مسؤولية طبيب التوليد وحده، بل هي عملية مؤسسية شاملة تتطلب بيئة طبية مجهزة تجهيزًا جيدًا. وبدون هذه الشروط، لا تختلف الولادة في المستشفى كثيرًا عن الولادة في المنزل.