الدكتور عمرو حسن يكتب: برمجة الجنين.. السطر الأول في كتاب قوة مصر

في عالمٍ يتسابق فيه الجميع نحو المستقبل، يبدو أن معارك التقدم تُحسم في عوالم الاقتصاد والسياسة والعلوم. لكن الحقيقة الأعمق تكمن في مكان أبسط وأكثر خفاءً: الرحم. هنا تُنسج الخيوط الأولى لمعركة الأمن القومي، حيث يُنشئ الجنين “شفرة صحته”، التي لا تُحدد عمره الفردي فحسب، بل أيضًا قوة أمته لعقود قادمة.
لم تعد برمجة الجنين ترفًا علميًا، ولا مصطلحًا يردده الباحثون مرارًا وتكرارًا في المؤتمرات الطبية. لقد أصبحت واقعًا سياسيًا واقتصاديًا يؤثر على حاضر الأمم ومستقبلها. تغذية الأم ورعايتها الصحية وبيئتها النظيفة واستقرارها النفسي ليست أمورًا فردية، بل استثمار استراتيجي في رأس المال البشري. فالجنين المبرمج ليكون سليمًا اليوم يمكن أن يصبح عالمًا غدًا، مساهمًا في المعرفة، وصانع قرار، أو عاملًا منتجًا يُعزز اقتصاد بلاده.
تُعدّ التجربة الهولندية في شتاء عامي ١٩٤٤/١٩٤٥ درسًا بالغ الأهمية للعالم. فالجيل الذي وُلد بصحة أسوأ، أصبح، بعد عقود، أكثر عرضة لأمراض ذلك العصر: السمنة، وداء السكري، وارتفاع ضغط الدم. كانت أجسادهم مُبرمجة للتكيف مع الندرة، ولكن عندما عاشوا في وفرة، أصيبوا بأمراض مزمنة أنهكت الأفراد واستنزفت الأمة. هذه القصة ليست مجرد حدث بارز في التاريخ الأوروبي؛ بل هي رسالة مباشرة إلى جميع الدول التي تُهمل صحة أمهاتها وأجنتها: من يُترك “برمجة الجنين” للصدفة سيدفع لاحقًا ضعف الثمن في ميزانيات الصحة والتعليم والإنتاج.
في مصر، حيث يُشكّل الشباب غالبية المجتمع، أصبحت برمجة الأجنة مسألة أمن قومي بامتياز. فالطفل السليم بدنيًا ونفسيًا يُعدّ استثمارًا مربحًا للدولة: قوة عاملة كفؤة، وعقول مبدعة، وأجيال قادرة على المنافسة عالميًا. أما الطفل الذي يعاني من ضعف في جهازه المناعي أو قدراته الفكرية المحدودة، فيتكبّد تكاليف طبية وتعليمية واقتصادية مستمرة تُرهق ميزانية الدولة وتُضعف مناعتها.
لذا، يكتسب المشروع الوطني لبناء الجمهورية الجديدة أهميةً متزايدة، إذ وضعت القيادة السياسية الإنسان في قلب معادلة التنمية، واعتبرته الثروة الحقيقية للوطن. فالتنمية لا تُقاس بالمشاريع الاقتصادية أو البنية التحتية فحسب، بل بقدرة الدولة على تنشئة أجيال قوية ومتعلمة وتنافسية ومبتكرة. ومن هذا المنطلق، تتضح أهمية ربط مسألة “البرمجة الجنينية” برؤية مصر المستقبلية، كونها ركيزة استراتيجية لبناء رأس المال البشري.
أكد الرئيس السيسي مرارًا وتكرارًا أن التنمية البشرية هي التحدي الأكبر الذي تواجهه الدولة المصرية، وأن الاستثمار في الصحة والتعليم هو الطريق نحو التنمية الشاملة. صحة الأم والطفل هي خط الدفاع الأول. فالجنين المُبرمج صحيًا منذ الحمل يكون أكثر قدرة على التعلم، وأكثر إنتاجية، وأقل عرضة للأمراض المزمنة التي تُثقل كاهل ميزانية الدولة.
ومن ثم، فإن التدابير الخاصة بصحة الأم والجنين لم تعد مجرد برامج في قطاع الصحة، بل أصبحت أدوات سياسية لضمان أمن مصر واستقرارها لعقود قادمة.
برمجة الجنين ليست مسألة طبية معزولة عن العمل الحكومي، بل هي “قانون أمن قومي” كُتب في رحم كل أم مصرية. إذا أردنا مصر قوية، تنافسية، ومزدهرة، يغذيها شبابها وفكرها، فعلينا أن نبدأ من هنا: في الرحم، بالاستثمار في صحة الجنين. الأم التي نحميها اليوم ستحمل مستقبلنا، والجنين الذي نرعاه اليوم سيرفع علم مصر عاليًا بين دول العالم.
– المؤلف: مستشار وزير الصحة وأستاذ أمراض النساء والتوليد بكلية طب قصر العيني