لماذا تراهن أمريكا على المستشار الألماني فريدريش ميرتس؟

في ظل التحديات العالمية المتصاعدة وتغير موازين القوى الدولية، تواجه الولايات المتحدة حاجةً متجددةً لإعادة تقييم تحالفاتها وشراكاتها العالمية. وفي خضم هذه التغيرات، تتضح أهمية دور أوروبا، وخاصةً ألمانيا، في استقرار النظام العالمي الذي تقوده واشنطن منذ عقود. ومع خضوع ألمانيا لتغيرات سياسية واقتصادية عميقة، تبرز شخصيات جديدة قد تلعب دورًا حاسمًا في رسم مستقبل العلاقات بين أوروبا وأمريكا.
في تقرير نشرته مجلة “ناشيونال إنترست”، يوضح جيمس برويت، الصحفي السياسي المعروف ومستشار السياسة الأوروبية، أن المستشارة الألمانية الجديدة تعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي في أوروبا من خلال إبعاد نفسها عن الصين، وتعزيز حلف شمال الأطلسي، وترسيخ التحالف مع الولايات المتحدة.
على الرغم من أنه لم يمض على توليه منصب رئيس الوزراء في ألمانيا سوى بضعة أشهر، إلا أن المستشار فريدريش ميرز (الحزب الديمقراطي المسيحي) سرعان ما أصبح واحداً من أكثر حلفاء أميركا موثوقية في أوروبا ــ على الأقل في الوقت الراهن.
ويرى برويت أنه في حين تردد ميرز بين الدعوة إلى “استقلال أوروبي حقيقي” عن الولايات المتحدة في فبراير/شباط ووصف أميركا بأنها “الصديق والشريك الذي لا غنى عنه لألمانيا” في يونيو/حزيران، فإن استراتيجية إدارته لإعادة تشكيل العلاقات داخل أوروبا وإحياء التحالف عبر الأطلسي سوف تعمل في الوقت نفسه على تعزيز النفوذ الاستراتيجي الأميركي على القارة.
ويضيف أن شعبية ميرز النسبية بين القادة الأوروبيين، إلى جانب رغبته في تعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية لألمانيا وتحسين قدراتها العسكرية، ستُعيق بفعالية تعمق العلاقات بين الغرب والصين. وبالتالي، قد يُسهم تولي ميرز منصب المستشار في الحفاظ على الهيمنة المالية والعسكرية الأمريكية في أوروبا على خصومها الاستراتيجيين الرئيسيين في المستقبل المنظور.
بصفتها الدولة الأكثر سكانًا في الاتحاد الأوروبي وأكبر دولة مُصدّرة، تُعدّ ألمانيا طرفًا هادئًا ولكنه مهم في صراع النفوذ بين الولايات المتحدة والصين. فمن ناحية، تتمتع ألمانيا بعلاقات سياسية وثيقة مع الولايات المتحدة، وتستضيف أكثر من 34 ألف جندي أمريكي، وتُعدّ شريكًا أمنيًا رئيسيًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وفي العام الماضي، أصبحت الولايات المتحدة أيضًا أكبر شريك تجاري لألمانيا من حيث إجمالي الصادرات والواردات، متجاوزةً الصين.
في الوقت نفسه، تمارس الصين نفوذًا اقتصاديًا غير متناسب على ألمانيا، مما يُقوّض شراكتها مع الولايات المتحدة في المنطقة. في عام 2024، بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين حوالي 279 مليار دولار، وتعمل وتستثمر أكثر من 5000 شركة ألمانية في الصين. وقد أعلنت شركات صناعة سيارات معروفة، مثل فولكس فاجن وبي إم دبليو ومرسيدس بنز، عن خطط لزيادة استثماراتها في مصانع السيارات في المقاطعات الصينية.
لا تزال ألمانيا تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الصين في توفير مكونات الطاقة المتجددة، مثل الألواح الشمسية وبطاريات السيارات الكهربائية. وهذا يثير مخاوف أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) بزعامة ميرز بشأن تأثير هذه العلاقات التجارية على مصالح الأمن القومي الألماني.
وعلى النقيض من سلفه أولاف شولتز، الذي عارض علناً فرض الرسوم الجمركية الأوروبية على السيارات الكهربائية الصينية في عام 2023، اتخذ ميرز موقفاً واضحاً بشأن الصين، قائلاً في يناير/كانون الثاني 2025: “في الأسابيع والأشهر الأخيرة، أصبحت مقتنعاً بشكل متزايد بأن السوق الأميركية، بما في ذلك السوق في أميركا الجنوبية، تمثل أساساً أكثر أماناً بالنسبة لنا من الاعتماد حصرياً على الصين”.
بعد تشكيل ائتلاف مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي في أبريل، نشر حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وثيقةً حول السياسة الأمنية الألمانية المستقبلية. وصف فيها الصين بأنها “خصمٌ منهجي”، والتزم باستراتيجية “تقليص المخاطر” الناتجة عن الاعتماد على الصين في القطاعات الحساسة. بعبارة أخرى، تهدف حكومة ميرتس إلى استعادة الاستقلال الاستراتيجي، ولن تتعاون مع الصين إلا إذا كان ذلك يخدم المصالح الألمانية.
ويعتقد بريوت أنه في حين أن الإدارة لا تدعو بأي حال من الأحوال إلى الانسحاب الكامل من الصين، فإنها تعمل على الأقل على الحد من تغلغل الصين المتزايد في الاقتصاد الألماني والأوروبي.
في هذا السياق، من المرجح أن يُقرّب ابتعاد ألمانيا عن الصين أوروبا من الولايات المتحدة، لا سيما في ظلّ الجاذبية الدولية التي يتمتع بها ميرز. فقد لفت انتباه الصحفيين السياسيين لجهوده الرامية إلى تحسين العلاقات الفرنسية الألمانية، التي تدهورت بشكل ملحوظ خلال فترة المستشار السابق أولاف شولتز.
كما قام ميرز بحملة مكثفة من أجل إعادة دمج بريطانيا العظمى في المجال الجيوسياسي للنفوذ للاتحاد الأوروبي وسافر شخصيًا إلى لندن في 17 يوليو/تموز لتوقيع اتفاقية بشأن التعاون الدفاعي بين البلدين.
خارج أوروبا، أفادت التقارير أن ميرز حافظ على علاقة عمل مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وصفه بأنه “ممثل قوي لألمانيا” بعد لقائهما في البيت الأبيض في الخامس من يونيو/حزيران. عمومًا، يُقال إن هذا التقارب يُقرّب الولايات المتحدة وأوروبا من بعضهما البعض في تعاونهما، كما يتضح من الاتفاق الأخير بين جميع أعضاء حلف شمال الأطلسي (باستثناء إسبانيا) على تخصيص ما لا يقل عن 5% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي بحلول عام 2035.
لكن ليس كل شيء يسير على ما يرام بالنسبة لحزب ميرتس وحزبه.
على الرغم من أغلبيته في البوندستاغ، لا يزال حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) متقدمًا بفارق ضئيل على حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) اليميني المتطرف. في نهاية يونيو/حزيران 2025، حصل الحزب على 29% من الأصوات الألمانية، بينما حصل حزب البديل من أجل ألمانيا والحزب الاشتراكي الديمقراطي على 22% و15% على التوالي. هذا يضع ميرز في موقف حرج، لا سيما بعد خسارته منصب المستشار بفارق ستة أصوات فقط في الجولة الأولى من التصويت في 6 مايو/أيار. ورغم فوزه في الجولة الثانية، لا يزال دعمه في البوندستاغ هشًا.
فيما يتعلق بمصالح السياسة الخارجية الأمريكية الحالية، يُعدّ حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) على الأرجح الحزب الأكثر تأييدًا لأمريكا في الساحة السياسية الألمانية. في المقابل، يتبنى حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) نهجًا قوميًا متشددًا، ويفضل تعزيز العلاقات مع روسيا على الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة.
في حين يتبنى الحزب الديمقراطي الاجتماعي نهجا معتدلا ويرى الصين شريكا أساسيا في مواجهة التحديات العالمية مثل الانتشار النووي وتغير المناخ والحرب بين روسيا وأوكرانيا، فإن حزب اليسار وتحالف الصحراء فاجنكنيخت يتخذان موقفا أكثر تصالحية في دعمهما لتعزيز العلاقات مع الصين ويؤكدان على دورها القيادي في مجموعة البريكس.
يختتم برويت تقريره بالقول إن الزمن وحده كفيلٌ بإثبات قدرة ميرز على البقاء في السلطة في برلين. ومع ذلك، فإن الأشهر القليلة الأولى من ولايته تُظهر بوضوح أنه يقوم بدوره لمنع ألمانيا من الانجراف كليًا نحو نفوذ الصين. ومن المؤكد أن على أمريكا دعمه في هذا المسار.