أحمد الطيب: غزة وما نزل بساحتها من حروب ودمار هي القضية التي يجب أن تدور عليها ماكينة الإعلام صباحا ومساء

“الإسلاموفوبيا” هي وهم أو خيال مريض يهدف إلى تشويه صورة الإسلام وتقويض مبادئه.
إن الملاحقة الممنهجة للصحفيين في قطاع غزة تهدف إلى إسكات صوت الحقيقة ومنع تصوير الصورة المزعجة والمرعبة للعدوان.
أكد فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، أن العرب والمسلمين يعانون من رسائل وتقارير إعلامية شوهت صورتهم لدى الغرب. وقد ربطت هذه التقارير الإعلامية الإسلام بالعنف والتطرف وقمع المرأة، وصورت الإسلام زوراً على أنه “حركة اجتماعية” أو “أيديولوجية سياسية” تدعو إلى العنف والتعصب والكراهية والتمرد ضد النظام العالمي.
جاء ذلك خلال كلمته في افتتاح القمة الإعلامية العربية التي تستضيفها دولة الإمارات العربية المتحدة، بحضور الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وعدد من الشخصيات الإعلامية العربية الرائدة.
وأوضح أن وسائل الإعلام الغربية تحملت العبء الأكبر من هذه الأكاذيب واستمرت في نشرها حتى يومنا هذا. واستشهد بالكاتب والمفكر الفلسطيني المسيحي النزيه الدكتور إدوارد سعيد، في كتابه الشهير “تغطية الإسلام”، الذي يصف فيه تغطية الإعلام الغربي لهذا الدين، الذي يتبعه ما يقرب من ملياري مسلم في شرق العالم وغربه، على النحو التالي: “أظهرت الأبحاث الدقيقة أنه يكاد لا يوجد برنامج تلفزيوني في وقت الذروة لا تتضمن عدة حلقات منه صورًا نمطية عنصرية ومهينة عن المسلمين. وبالتالي، يُنظر إلى الفرد المسلم على أنه ممثل لجميع المسلمين وللإسلام بشكل عام”.
وأكد أن العديد من الصور المضللة اخترقت الدول العربية والإسلامية وأن تأثيراتها كان لها أثر سلبي ومدمر على خطابنا الإعلامي العربي. وقد تم في هذه الخطة الاستعانة بشخصيات من أبناء شعبنا تميزت بتصدير ثقافة كاذبة تنتقد كل ما هو عربي أو من الفكر والتوجه الإسلامي. وقد أدى ذلك إلى تفاقم حدة التحديات الحالية. ومن أهم هذه التحديات الفجوة المتزايدة بين وعينا الحاضر وتراثنا، الذي كان حتى وقت قريب أحد أقوى مصادر فخرنا وشرفنا وصمودنا في وجه أولئك الذين يتلاعبون بماضي هذه الأمة وحاضرها.
وفي معرض حديثه عن هموم المهتمين بشؤون العرب والمسلمين، قال الإمام الأكبر: “لا أظن أن منصفًا، في الشرق أو الغرب، ينكر أن القضية التي ينبغي أن تركز عليها الآلة الإعلامية العربية صباحًا ومساءً هي قطاع غزة وما لحق به من عدوان ودمار، وما رافقه من انتهاكات شنيعة لحقوق الإنسان. وهي قضايا أنكرتها شعوب العالم، ولا تزال تنكرها وتحتقرها منذ تسعة عشر شهرًا متواصلة”.
وأكد على الأهمية المتزايدة والمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتق الإعلام العربي، ودوره في الكشف المستمر عن الظلم الذي يتعرض له أصحاب الأرض والحقوق، وإبراز صمود هذا الشعب وتمسكه بأرضه، وإبقاء القضية الفلسطينية حية في وجدان شعوب العالم شرقاً وغرباً. وأكد أيضاً أنه من واجب العدالة أن نعترف ونرحب بالتغيير في مواقف العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي تجاه الأحداث في غزة والأحداث الأوسع ذات الصلة. ونحن نرحب ترحيبا حارا بصحوة ضميركم الإنساني النبيل.
وأشاد بصمود العرب في وجه آلة العدوان، داعياً إلى الوقف الفوري لإطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات والإمدادات الإنسانية رغم غطرسة الاحتلال. كما وجه التحية لكل الأحرار في العالم الذين يعتبرون ما يحدث جريمة إنسانية يجب إيقافها فوراً. وأكد أننا لا نزال ننتظر جهوداً إعلامية مكثفة لمواجهة ظاهرة “الإسلاموفوبيا” غير المشروعة وتأثيرها السلبي على الشارع الغربي، مع أنها مجرد وهم أو خيال مريض يتم المبالغة فيه لتشويه صورة الإسلام والنيل من مبادئه القائمة على السلام والتعايش، رغم حقوق الإنسان والحيوان والنبات والجماد التي كفلتها الشريعة الإسلامية، ولا نعرف لها مثيلاً في القوانين والأنظمة والسياسات المعاصرة، والتي طالما أشاد بنا وعاب علينا واضعوها غيابها. وعندما حلت الكارثة بأهل غزة انكشفت القذيفة وسقط القناع. ما بقي مخفيًا كان أكبر وأكثر تدميراً.
وأضاف شيخ الأزهر أن الحملات الإعلامية الغربية تجاوزت مجرد تشويه الإسلام والحضارة العظيمة التي نشأت في ظله والتي لا يخفى قيمتها وإسهاماتها في التنوير والتعليم والتقدم الإنساني. ولهم رسالة أخرى: إنهم محاولة لطرح ثوابت الحضارة الشرقية وأسس أخلاقها ومجتمعها الإنساني والأسري، ودعوة لمحو معالم هذه الأخلاق. وطالبت هذه الحملات بإعطاء الأولوية للحرية الشخصية، حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الأسرة وتغيير شكلها واستبدالها بأنظمة أخرى تنتهك حقوق الطفل في جوهرها وتسمح بممارسة أشياء تحرمها الشريعة الإسلامية أو حتى الذوق والعرف الإنساني. لقد سمحوا للرجال بالزواج من الرجال والنساء بالزواج من النساء، وفي الوقت نفسه برروا الإلحاد والتمرد على طبيعة التدين. هدفهم تجفيف كل مصادر القوة والاستقلال والاعتزاز بالشخصية العربية والإسلامية. كل هذا، أو بعضه، يستحق أن نلقيه على عاتقنا جميعاً ـ وخاصة العاملين في وسائل الإعلام ـ بمسؤولية التفكير الجدي في كيفية مواجهة هذه الرياح السامة وحماية شبابنا وبلداننا مما تحمله معها: عوامل الاغتراب والفناء والتفكك.
وأكد أيضاً أن التطورات التقنية والتكنولوجية في عصرنا في مجال الذكاء الاصطناعي يجب أن تكون محاطة بسياج من المسؤولية الأخلاقية والرقابة المهنية حتى لا تتحول إلى وحش جامح يهدد البشرية جمعاء. المسؤولية هنا تقع على عاتق الخبراء والمشرعين، وهم وحدهم من يجب أن يضمنوا أن لا تنحرف هذه التقنيات عن أهدافها الأصلية، المبنية على مبادئ إنسانية وبعيدة عن أهداف الهيمنة والسيطرة والغزو الثقافي.
وأشار إلى المشروع الذي بدأه مع البابا الراحل فرانسيس لنشر وثيقة شاملة حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وكان من الممكن أن يتم النشر لو لم يكن القدر قد شاء غير ذلك بوفاة البابا. وأكد على استمرار التواصل مع الفاتيكان خلال فترة ولايته الجديدة لإنجاز هذا المشروع.
وفي ختام كلمته استذكر الإمام الأكبر شيخ الأزهر مأساة الصحفيين الفلسطينيين وغيرهم الذين دفعوا حياتهم ثمناً لشرف الكلمة وحرمة الحقيقة وعرض الواقع دون تزييف أو تحريف. استشهد في غزة أكثر من مائتي إعلامي، وأصيب آخرون بجروح خطيرة، وبُترت أطرافهم، ودُمرت منازلهم، وفقدوا عائلاتهم، أو أجبروا على النزوح من عائلاتهم. وأكد أن الحملة الممنهجة على الصحفيين في غزة تهدف إلى إسكات صوت الحقيقة، ومنع وصول صورة واضحة وفاضحة عن وحشية العدوان، وتدمير الأدلة، وتضليل القضاء، ومنع توثيق الجرائم التي ترتكب ليلاً نهاراً.
ودعا الإمام الأكبر كل العاملين في مهنة الإعلام النبيلة إلى المشاركة في بلورة استراتيجية إعلامية عربية تكون درعاً للحقيقة والحفاظ على قيم الأمة والحفاظ على هويتها.
وتمنى الإمام الأكبر للقائمين على المؤتمر والمشاركين فيه التوفيق في بلورة استراتيجية إعلامية عربية مشتركة قابلة للتطبيق، تعبر عن واقع هذه الأمة وآلامها ومآسيها، وتحمي شبابنا الذي أصبح على وشك الوقوع فريسة لشبكات المنصات الرقمية التي تتحكم في توجيه مشاعرهم وعواطفهم، وتعمل جاهدة على إبعادهم عن واقع أمتهم ومواجهة تحدياتها. بل إنهم يقتربون من تبييض أفعالهم الشريرة من خلال تدمير الفوارق وطمس الخطوط الفاصلة بين الفضيلة والرذيلة في عقول الكثيرين منهم. كما نشروا شعارات كاذبة ومغرية للغاية مثل “التقدم” و”الانفتاح” و”الحرية” و”الحداثة” ورفض الرجعية والظلامية والتخلف، وغيرها من الشعارات التي أصابت بلادنا بعدد كبير من الأمراض الاجتماعية، والتي أثرت سلبا على الذوق العام والعقل السليم، وأخلت بمقياس الخير والشر وميزان الحق والباطل.