المسرح والذكاء الاصطناعي في مهرجان القاهرة التجريبي ما بين الإبداع الإنساني وتهديد الصناعة

بقلم: منال الجيوشي
تصوير فوتوغرافي – إسلام فاروق
في اليوم الأول من مهرجان القاهرة الدولي الثاني والثلاثين للمسرح التجريبي، عُقدت الجلسة الأولى بعنوان “المسرح وما بعد العولمة” تحت عنوان “المسرح والذكاء الاصطناعي”. شارك في الجلسة كلٌّ من الدكتور عبد الكريم عبود من العراق، والدكتورة منتهى طارق من العراق، والدكتور سليمان محمد أرطي من الكويت، وجهاد الديناري من مصر. أدار الجلسة الدكتور هشام زين الدين من لبنان.
في بداية الجلسة، أكد الدكتور هشام زين الدين على تباين المواقف تجاه الذكاء الاصطناعي. رحّب به البعض، واعتبره إنجازًا تكنولوجيًا هامًا من شأنه أن يُطوّر المسرح ويفتح آفاقًا جديدة. في المقابل، اعتبره آخرون تهديدًا وجوديًا مباشرًا قد يُهدد جوهر الفن المسرحي. وجادل بأن هذا يجعل الذكاء الاصطناعي مشكلة حقيقية تستحق نقاشًا مُعمّقًا.
قدمت الأستاذة الدكتورة منتهى طارق حسين، أستاذة في الجامعة المستنصرية/كلية التربية الأساسية، بحثاً بعنوان “نحو مقاربة تحليلية للعلاقة المتبادلة بين الذكاء الاصطناعي وإنسانية النص المسرحي” ضمن جلسة نقاشية بعنوان “المسرح والذكاء الاصطناعي”.
في عرضها البحثي، أوضحت الباحثة أن الذكاء الاصطناعي يكتسب أهمية متزايدة في العديد من المجالات التي اعتمدت في الأصل على الطاقة البشرية فقط. وقد أدى ذلك إلى ظهور اتجاهين متناقضين: الأول يتعلق بالخوف من أن يحل الذكاء الاصطناعي محل المشاعر البشرية، التي تُشكل أساس العملية الإبداعية. أما الاتجاه الثاني فيرى في هذا التدخل وسيلة لتبسيط وتسريع أمور كثيرة.
وأضافت أن السؤال الأهم في هذا السياق هو: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحل محل الحساسية الإنسانية التي تشكل أساس الإبداع الدرامي؟
أوضحت أن البحث الذي قدمته يهدف إلى تفكيك تفاعل الذكاء الاصطناعي مع البعد الإنساني في النص المسرحي، من خلال منهج تحليلي متعدد الأبعاد يجمع بين الفلسفة والتحليل الفني والتقني. وأكدت أن الدراسة تنطلق من إشكالية محورية: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي التفاعل مع البعد الإنساني في النص المسرحي، بكل ما يحمله من أعماق إنسانية وانطباعات حسية، دون أن يفقد النص فرادته وروحه الإبداعية؟
وخلصت الباحثة إلى أن الذكاء الاصطناعي، وإن كان قادرًا على صياغة هياكل درامية متماسكة وتطوير لغة مسرحية متطورة، إلا أنه لا يجسد العمق الإنساني والأبعاد التأملية إلا بشكل محدود. وأكدت أن القيادة تكمن دائمًا في العقل البشري وفعله، ولا يمكن اختزالها في أطر محددة. وأشارت إلى أن الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من التطور التكنولوجي، سيبقى في النهاية مرتبطًا بالعقل البشري ومقيدًا به، ولن يتغلب أبدًا على الروح الإبداعية الفريدة التي تميز البشر.
شارك الدكتور سليمان محمد أرطي، الأستاذ المشارك في قسم النقد والأدب المسرحي بالمعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، في حلقة نقاشية حول “المسرح والذكاء الاصطناعي” وقدم دراسة علمية بعنوان “الذكاء الاصطناعي في الفنون المسرحية: الرؤية والظهور”.
في مساهمته، أكد الباحث أن الذكاء الاصطناعي أصبح قوة بارزة في تطوير الفنون، مساهمًا في تحويل عناصرها إلى تشكيلات فنية جديدة تتلاءم مع طبيعة التلقي المتغيرة. وأكد أن المسرح والتكنولوجيا معًا يُشكلان ثنائية تكافلية في صياغة صورة معاصرة، تتجلى في الروبوتيات والأداء الرقمي (الصوت، الصورة، الضوء)، مما يخلق مساحة سينوغرافية متجددة باستمرار.
ناقش الدكتور آرتي مفهوم سيمون يونغ لما بعد الإنسانية، الذي يجمع بين التقدم العلمي والتكنولوجي وتعزيز القدرات البشرية في التعامل مع الموت والمرض من خلال تطوير الهندسة الوراثية والجينات والتعديل البيولوجي. وهي الرؤية نفسها التي دعا إليها الفيزيائي غريغوري ستوك في كتابه “إعادة تصميم البشر”، والتي أبرزتها الباحثة نوران مهدي عبد العزيز في دراستها “خطاب الأجساد الهجينة في الفنون الأدائية المعاصرة”.
في دراسته، ركّز الدكتور آرتي على تجارب المخرج الفرنسي لويس فيليب ديمرز في مسرحيته “الجحيم”، حيث ارتدى الممثلون أجسامًا شبه آلية خلال العروض لاختبار قدرة الإنسان على التعايش مع المركبات الآلية. وهذا يعكس توجهًا نظريًا نحو عوالم جديدة أقرب إلى واقع الحياة البشرية.
طرح الباحث عدة فرضيات رئيسية، أهمها: يرتبط مفهوم ما بعد الإنسانية بالتقدم التكنولوجي ودوره في توسيع القدرات البشرية، لكنه في الوقت نفسه يفرض نوعًا من التحكم يتجلى في العروض المسرحية من خلال عناصر كالضوء والصوت والحركة والبرمجيات والفيديو. ويهدف إلى كسر قواعد الأداء التقليدية وفتح فضاءات رقمية جديدة تتقاطع فيها البنية الطبيعية والآلية، مما يطور الممارسات الفنية المعاصرة.
وفي ختام دراسته، أكد الدكتور أرتي أن هذه التحولات ليست مجرد نظريات فكرية، بل هي انعكاس عملي للعروض المسرحية المعاصرة، التي تعتمد الآن على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية لدفع حدود الإبداع وإعادة تشكيل العلاقة بين الفن والإنسانية والتكنولوجيا.
في هذه الأثناء، قدم الأستاذ الدكتور عبد الكريم عبود عودة، أستاذ المسرح في جامعة البصرة في العراق، دراسة بعنوان “الذكاء الاصطناعي وممارسات المسرح: تداخل البعد المادي والتجسيد الافتراضي في الأداء المسرحي المعاصر” ضمن ندوة “المسرح والذكاء الاصطناعي”.
في بداية عرضه، أوضح الباحث أن المسرح شهد تحولات جوهرية منذ مطلع القرن العشرين، نتيجةً للتطورات التقنية والتكنولوجية، التي طرحت تحدياتٍ كبيرةً أمام المبدعين البشريين، أبرزها الذكاء الاصطناعي. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة لمعالجة البيانات أو أداء مهام روتينية، بل تطور ليصبح عنصرًا أساسيًا في تشكيل العمليات الإبداعية، سواءً في الفن عمومًا أو في فنون المسرح خصوصًا.
أوضح أن الذكاء الاصطناعي أصبح قادرًا على إنتاج نصوص موسيقية وصور وأفلام فيديو، بل وحتى إعادة إنتاج عروض تاريخية من خلال إعادة بنائها رقميًا. كما سلّط الضوء على الإمكانات الهائلة التي يتيحها من خلال دمج الصورة والصوت باستخدام قوانين رقمية متطورة. ونتيجةً لذلك، أصبح جزءًا لا يتجزأ من العملية الفنية نفسها، مساهمًا في تطوير أدوات تكنولوجية جديدة كالواقع المعزز والافتراضي. وقد ساهم ذلك في إعادة صياغة العلاقة الجمالية وتداعياتها الفنية والفكرية، مما أدى إلى إرساء علاقة جديدة بين الفنان المبدع والعالم الافتراضي الإنتاجي.
وأضاف الدكتور عودة أن الذكاء الاصطناعي لعب دورًا محوريًا في إحداث تغييرات جذرية في التركيب السينوغرافي والتفاعل الدرامي، إذ منح الصورة البصرية قدرات غير مسبوقة في تشكيل عوالم رقمية قابلة للتحول والتغيير والتحولات والتفاعل المباشر. وقد أفضى ذلك إلى ديناميكية تفاعلية جديدة قائمة على تداخل الأبعاد المادية لمكونات العرض المسرحي الحضوري مع التجسيد الافتراضي للذكاء الاصطناعي.
في هذا المفهوم، يتفاعل الجسم البشري المادي مع العناصر الرقمية ضمن بنية متجانسة، مما يتطلب وعيًا جماليًا وتقنيًا مبتكرًا. تتيح البيئة الرقمية – من خلال تقنيات مثل التقاط الحركة والتوائم الرقمية – نقل المشاعر والتعبيرات الإنسانية إلى شخصيات رقمية تتفاعل مع الأحداث آنيًا.
وأكد أن القضية الأساسية التي تناولتها الدراسة هي مدى فعالية الفعل الإبداعي الإنساني في مواجهة الإمكانيات الرقمية المتطورة والمتغيرة، وخاصة في مواجهة الاكتشافات التكنولوجية المتزايدة التي تسعى إلى استبدال دور الفنان الإبداعي بالإمكانيات الافتراضية كأداة للتعبير الفني المسرحي.
في هذه الأثناء، قدمت الباحثة جهاد الديناري ورقة بحثية بعنوان “تحديات مسرح الطفل في عصر الذكاء الاصطناعي: بين التطور التكنولوجي وانهيار الاستقبال وتهديد الصناعة”، تناولت فيها ظاهرة مسرح الطفل الإلكتروني الحديثة، التي يسيطر عليها الذكاء الاصطناعي، من الكتابة والإخراج إلى أساليب العرض.
وأشار جهاد إلى أن انتشار فيروس كورونا ساهم في صعود المسرح البديل عبر الإنترنت في أوروبا وأميركا، حيث أصبح من الممكن مشاهدة عروض مسرحية كاملة عبر الإنترنت من خلال حجز المقاعد إلكترونياً، كما في المسرحية الأميركية «دريم»، دون الحاجة إلى الحضور الشخصي.
وأكدت أن هذه التقنيات تقدم حلولاً عملية في أوقات الأزمات مثل جائحة كوفيد-19، لكنها في الوقت ذاته تهدد فكرة التجربة المسرحية المباشرة وتقوض أهمية التجربة الحية، خاصة فيما يتعلق بمسرح الأطفال الذي يعتمد بشكل أساسي على التفاعل الحسي المباشر بين الطفل والعرض المسرحي.
كما حذّر الباحث من خطر انزلاق الصناعة برمتها نحو سيطرة الآلة على حساب التدخل البشري. وأوضح أن استخدام برامج الذكاء الاصطناعي في كتابة السيناريوهات وإنتاج المسرح الإلكتروني، بل وحتى الإخراج أحيانًا، يُهدد الصناعة التقليدية، وله تداعيات جسيمة على الصحة النفسية والعاطفية للأطفال والشباب.
اختتمت جهاد بحثها بمقارنة بين أشكال الاستقبال في مسرح الأطفال الواقعي وتلك القائمة على الذكاء الاصطناعي. وأكدت أن هذه المقارنة تكشف عن الفروق الجوهرية بين التجربتين، وتنبه إلى ضرورة التفاعل الواعي مع هذه التقنيات الجديدة.
شهدت الندوة نقاشات عديدة ومتنوعة حول الذكاء الاصطناعي وعلاقته بالمسرح. وأكد الدكتور سامح مهران، رئيس المهرجان، في عرضه التقديمي على مخاطر استخدام الذكاء الاصطناعي على العقل البشري، مشيرًا إلى أن استخدامه يؤدي إلى كسل العقل وضعف الإبداع والابتكار.