شهداء الحقيقة.. حكايات 4 صحفيين فلسطينيين ضحوا بحياتهم لنقل معاناة غزة

وسط الأنقاض وأصوات القنابل في غزة، لم يكتفِ الصحفيون بتغطية الأحداث، بل كانوا جزءًا من المأساة نفسها. بكاميراتهم وميكروفوناتهم، لفتوا أنظار العالم لتوثيق الأحداث. لكن الكثيرين دفعوا أرواحهم ثمنًا لذلك. أربعة من أبرز الصحفيين الفلسطينيين – محمد الخالدي، وأنس الشريف، ومحمد نوفل، ومحمد قريقع – قضوا في ظروف مختلفة، لكن شجاعتهم وعزيمتهم على نقل الحقيقة جمعتهم.
خلف كل واحد منهم تكمن قصة إنسانية مليئة بالألم والأحلام المؤجلة والعائلات الممزقة، بحيث تبقى شهاداتهم حية رغم صمت أجسادهم.
وفي التقرير التالي ننقل شهادات مؤلمة وقصص إنسانية لعائلات الصحفيين القتلى، كما نقلتها صحيفة الغارديان البريطانية.
-محمد الخالدي. صحفي لم يتحمل قلبه تصوير الألم، وتوفي قبل عيد ميلاده.
قال أنس الخالدي عن شقيقه محمد، الصحفي البالغ من العمر 36 عامًا والذي استشهد قبل أربعة أيام من عيد ميلاده السابع والثلاثين: “كان أخي صحفيًا محترمًا للغاية. أحمد الله أنه لم يترك وراءه أبناءً، ففقد الأب أمرٌ في غاية الصعوبة. وبسبب الظروف الصعبة في غزة، لم يتزوج”.
درس محمد اللغة العربية والإعلام في جامعة الأزهر، وبدأ العمل كصحفي عام ٢٠١٠. أحب عمله، لكنه رفض منذ البداية تصوير مشاهد الجثث المقطعة أو صراخ الضحايا. قال لأخيه: “قلبي لا يحتمل هذا الألم”.
تميز بذكائه ونقاء قلبه، مما دفعه للانتقال من القصص الإنسانية إلى الصحافة الاستقصائية. بدأ مراسلاً لصحيفة دنيا الوطن، ثم توسع في عمله ليشمل التقارير الإنسانية. في عام ٢٠١٩، حصل على جائزة من الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) عن بحثه حول البطالة في غزة.
رغم ظروفه الصعبة، واصل أبحاثه بشكل مستقل، حتى أنه اضطر أحيانًا إلى اقتراض المال. انضم لاحقًا إلى منصة “مسبار” لمكافحة الأخبار الكاذبة والتحقق من الحقائق. كما طوّر محتواه، محوّلًا إياه من محتوى سياسي إلى محتوى علمي، وحظي بمتابعة واسعة على يوتيوب وإنستغرام.
مع اندلاع الحرب، نزح هو وعائلته من جباليا إلى رفح، ثم إلى دير البلح، وأخيراً إلى مستشفى الشفاء. ورغم عروض المنظمات الأجنبية، اختار البقاء ونقل صوت غزة إلى العالم، مقارناً الحياة داخل القطاع وخارجه.
كان رحيمًا بالأطفال، يوثّق جوعهم ويسعى لمساعدتهم. كان أحيانًا ينشر معلومات الاتصال بالعائلات المحتاجة على حساباته. ذات مرة، سأله أحد زملائه عما يريد فعله بعد الحرب، فأجاب مبتسمًا: “أريد أن آكل شاورما مع الكثير من الطحينة”.
قبل يومين من استشهاده، اتصل به شقيقه وعرض عليه شراء خيمة خاصة. لكنه رفض قائلًا: “أريد البقاء مع زملائي”. ناقشا أحلامه، وأكد أنه يتطلع إلى السفر ومواصلة إنتاج المحتوى بعد الحرب.
يُلخّص أنس حديثه قائلاً: “أنا فخور بأخي، باستشهاده، بسمعته الطيبة كصحفي، وبقلبه الطاهر. كان صحفيًا بارعًا، وإنسانًا رائعًا أيضًا”.
أنس الشريف، 28 عاماً، صحفي ومراسل قناة الجزيرة في غزة، قُتل على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد مسيرة قصيرة ولكنها مثمرة في مجال الصحافة.
قال شقيقه محمود الشريف: “أنس، الابن الأصغر للعائلة والمفضل لدى والدته، أدى واجبه المهني رغم التهديدات المستمرة من جيش الاحتلال”. وأضاف أن شقيقه “لم يكن يريد الموت، بل كان يحلم بإنهاء الإبادة الجماعية والعيش بأمان مع زوجته وطفليه ووالدته”.
كان أنس، الذي لم يغادر غزة قط، يأمل في السفر بعد الحرب تلبيةً للنداء الدولي للشهادة على معاناة الفلسطينيين وأداء مناسك الحج والعمرة. لكن التهديدات الإسرائيلية المتكررة، وخاصةً من المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، دفعته إلى الظهور في مقاطع فيديو وكأنه يستعد للموت.
بدأ أنس مسيرته المهنية كمصور مستقل قبل أن ينضم إلى قناة الجزيرة كمراسل أجنبي في ديسمبر/كانون الأول 2023، مع تصاعد وتيرة الحرب، متمكنًا من نقل الأخبار رغم انقطاع الاتصالات. تزامن ذلك مع مأساة شخصية عندما قُتل والده في غارة جوية إسرائيلية على منزل العائلة في 11 ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام.
عُرف أنس بشجاعته ومبادرته. أغضب الاحتلال بتقاريره عن مجازر المدنيين الذين كانوا ينتظرون المساعدات في شمال قطاع غزة. كما وثّق معاناة السكان تحت الحصار والمجاعة بالصور والفيديو. ظهر في عدة تقارير، وتأثر بشدة لرؤية الأطفال وكبار السن الجائعين.
عانى الصحفي الراحل من خسائر مؤلمة أخرى، أبرزها استشهاد زميله إسماعيل الغول، وإصابة المصور فادي الوهيبي بالشلل جراء قصف إسرائيلي. وكان قد عمل لأشهر على إخراج الوهيبي من قطاع غزة لتلقي العلاج.
وبحسب شقيقه، اتهمت إسرائيل أنس بالانتماء إلى حركة حماس، “لكن الحقيقة هي أنه لم يكن ينتمي إلى أي فصيل سياسي وكان مستهدفا فقط لإسكات صوت قطاع غزة”.
وأضاف: “رفض عروض الإجلاء الدولية، وأصرّ على البقاء بين أهله. وأكد أنه لن يسافر إلا بعد انتهاء الحرب، وليس قبلها”.
قبل ساعات من استشهاده، تحدث أنس مع شقيقه عن اجتياح وشيك لقطاع غزة، مؤكدًا أنه لن يغادره، وأنه يفضل الاستشهاد على التهجير. وترك وصية لصديق له خارج قطاع غزة، يوصيه فيها بحمل رسالة فلسطين إلى العالم، وأن يأتمن عائلته وطفليه على ضمير الإنسانية.
قُتل الصحافي محمد نوفل (29 عاماً) مع رفاقه بالقرب من مستشفى الشفاء.
يصف المصور الصحفي إبراهيم نوفل اللحظات الأخيرة لشقيقه محمد، مصور قناة الجزيرة: “آخر ما قاله لي محمد: اذهب ونم في بيتك. لا تنم في خيمتنا. لا أريد أن يموت أبي حزنًا على فقدنا معًا”. بعد ساعات، قتلته إسرائيل مع أصدقائي أنس الشريف، ومحمد قريقع، وإبراهيم زاهر في خيمة قرب مستشفى الشفاء، حيث كنتُ قبل قليل.
ويضيف إبراهيم: “قتلت إسرائيل أخي في 10 أغسطس/آب 2025. وقبل ذلك، قتلت والدتي منيرة (57 عامًا) في 22 يونيو/حزيران 2025، وشقيقي عمر (33 عامًا) في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2024. لقد أنهكني الفقد والحزن”.
كان محمد، المعروف بأبو يحيى، شابًا لطيفًا وطيب القلب، محبوبًا من الجميع، وخاصة والدته. كان مولعًا بالطبخ، ويدعو أصدقاءه إلى منزله لإعداد أشهى المأكولات. كان يقضي معظم وقته مع عائلته وأصدقائه، يعتني بأشجار التين والعنب والخوخ والليمون والزيتون التي تزرعها العائلة، ويزرع قصب السكر. كان متدينًا، مواظبًا على الصلاة، ويخطط للزواج.
يقول أخوه: “مع أنه كان يكبرني بعام، إلا أنني كنت ألجأ إليه دائمًا. لقد كان ملاذي وسندي في هذه الدنيا”.
كسائر سكان قطاع غزة، عانى محمد من النزوح والقصف والجوع. في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قصفت إسرائيل المكان الذي لجأوا إليه في جباليا. نجا إبراهيم تحت الأنقاض، بينما أصيب محمد بكسر في الحوض بعد أن أُلقيت جثته على سطح منزل أحد الجيران. في ذلك اليوم، فقدت العائلة أحد عشر فردًا.
بقي محمد في مستشفى إندونيسي لتلقي العلاج حتى 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حين اقتحمت قوات الاحتلال المستشفى تحت نيران كثيفة. اضطر إبراهيم وصديقه الصحفي أنس الشريف إلى الفرار، تاركين محمد الجريح. بعد فترة، طلب والدهما من إبراهيم الانتقال جنوبًا نظرًا لتدهور الوضع في الشمال.
ورغم إصابته، تمكن محمد من مغادرة المستشفى على العكازات والوصول إلى جباليا، حيث أقام مع أنس الشريف، يرافقه ويساعده في عمله رغم التهديدات الإسرائيلية.
يقول إبراهيم: “لقد أودت الإبادة الجماعية بحياة جميع أصدقاء محمد: زملاء طفولته ومدرسته وجيرانه. لقد مررت بلحظات لا تُطاق، مثل حمل جثمان أمي، ثم جثمان محمد”.
وبعد عودة العائلات إلى الشمال خلال وقف إطلاق النار، التقى إبراهيم بأخيه مرة أخرى: “كان نحيفًا وجائعًا، لكن ذلك كان أحد أسعد اللقاءات في حياتي”.
يروي إبراهيم يوم مقتله: “قضيت معظم اليوم معه ومع أصدقائي. طبخنا سلطة خضار فاخرة، وضحكنا ونحن نتحدث عن تهديدات أفيخاي أدرعي لأنس. في تلك الليلة، رغبتُ في النوم في خيمتهم، لكن محمد رفض. حملتُ ملابسي، والتقيتُ بأصدقاء في الطريق أصرّوا على أن أتناول الشاي معهم لمدة نصف ساعة. فجأة، سمعتُ صوت صاروخ. دقّ قلبي وقال لي إن الخيمة قد أُصيبت”.
بعد عدة اتصالات، تأكدت المأساة. في مستشفى الشفاء، وجد إبراهيم جثة أخيه، رأسه ممزق وذراعاه مبتورتان. قال: “كان ألمًا لا يُوصف. فقدت أخي وأصدقائي دفعة واحدة”.
وتابع: “وضعتُ محمدًا في ثلاجة المشرحة، ونصحتُ والدي وأخواتي بعدم الحضور بسبب الغارات الجوية المجنونة التي أعقبت استشهادهم. قضيتُ الليلة نائمًا بجانبه في المشرحة. في اليوم التالي، دفنته وطلبتُ أن يُحفظ كفنه مغلقًا ليتذكر الناس وجهه الجميل وابتسامته”.
-محمد قريقع، 33 سنة، صحفي
قال فايز قريقع، ابن عم الصحفي في قناة الجزيرة محمد قريقع: “كان محمد وحيد والدته، إذ توفي والده بعد ولادته بفترة وجيزة، وقضى حياته معها. درس الإعلام والصحافة، وتخرج من الجامعة الإسلامية بغزة”.
حتى في صغره، عُرف محمد بفصاحته وفصاحة لسانه. خلال حرب ٢٠٠٨، رافق الصحفيين وتعلم منهم. قبل الحرب، عمل مذيعًا مستقلًا لدى العديد من الإذاعات، وعُرف بروح الدعابة والروح المعنوية العالية. لجأ إليه أقاربه لرفع معنوياته في الأوقات الصعبة.
وأضاف فايز أن محمد كان ابنًا بارًا لأمه، وكان دائمًا يؤكد أن أمه وزوجته وطفليه هم كل حياته. نشأ في حي الشجاعية بغزة، حيث كان يشعر بارتباط عميق به. ومثل كثير من أهل غزة، عانى من النزوح والجوع والفقد المتكرر.
عندما اقتحمت قوات الاحتلال مستشفى الشفاء، لجأ محمد ووالدته المريضة المسنة إلى هناك. لكن الجنود فصلوا الرجال عن النساء، فاضطر محمد إلى الفرار جنوبًا. رفض ترك والدته، لكن مع استمرار الحصار، لم يستطع البقاء معها. بعد أسبوعين من انسحاب القوات، عُثر على جثتها المتحللة في درج المستشفى.
كان فقدان والدته صدمةً قاسيةً له، لا سيما وأن زوجته وطفليه نزحوا إلى جنوب غزة، مما تركه وحيدًا ومنهكًا نفسيًا. ومع ذلك، واصل عمله الصحفي الحر حتى انضم رسميًا إلى قناة الجزيرة عقب اغتيال الصحفي إسماعيل الغول.
وتابع فايز: “عانى محمد من عجزه عن إطعام عائلته بسبب المجاعة. لم يكن معتادًا على النوم في خيمة الصحفيين، ولكن ليلة اغتياله، كان يقف عند مدخل الخيمة ويهم بالمغادرة عندما أصابها صاروخ إسرائيلي، فاستشهد على الفور”.
واختتم فايز حديثه قائلاً: “عندما سمعتُ خبر مقتل أنس الشريف، لم أتخيل يومًا أنني سأفقد محمدًا أيضًا، ابن عمي وصديقي. لم يمضِ وقتًا طويلًا في تلك الخيمة. وفاته خسارة لا تُطاق، ليس فقط لعائلتنا، بل لقطاع غزة بأكمله. كان محبوبًا ولطيفًا، ودائمًا ما يُساعد الآخرين”.