مؤتمر الإفتاء العاشر.. دعوة لتأهيل المفتين لفهم الواقع الأوروبي وإنشاء هيئة مستقلة لصون الفتوى من التسييس

ترأس الشيخ أحمد البدوي، رئيس مجلس الإفتاء الكيني، الجلسة العلمية الخامسة بعنوان “استخدام الذكاء الاصطناعي: الأهداف والنتائج”. وقدّم الدكتور عمر نهاد محمود، الأستاذ المشارك في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بأبوظبي، بحثًا بعنوان “الفقه الافتراضي وأثره على الفتوى والمفتين في عصر الذكاء الاصطناعي”. وركز البحث على دور الفقه الافتراضي كأداة تعليمية ومنهجية في التطوير الأكاديمي للمفتين.
تناول الدكتور عمر نهاد مفهوم الفقه الافتراضي، باعتباره تفسيرًا للمشكلات الناشئة التي لم تقع بعد، والتي يُحتمل وقوعها. وقد استخدمه العلماء على مر العصور لبناء قدرات الاجتهاد واستشراف المستجدات. وأكد أن هذا الفقه جزء لا يتجزأ من التراث الإسلامي، وليس ظاهرة معاصرة.
جمعت الدراسة هذا الفقه مع أدوات الذكاء الاصطناعي، ووجدت أن تحليل البيانات واستشراف السيناريوهات يُسهمان في تحسين أداء الفتوى دون أن تُغني التكنولوجيا عن دور المجتهد، بل تُعدّ أداةً داعمةً للفتاوى دون أن تُلغيها. كما اقترح الباحث تطوير نموذج متكامل يجمع بين الفقه الافتراضي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي. يعتمد هذا النموذج على محاكاة تدريب الأحداث المتوقعة، ويستخدم تحليل النصوص الإسلامية برمجيًا لتوليد رؤى شرعية منضبطة.
واختتم الدكتور عمر بحثه بالدعوة إلى دمج الفقه الافتراضي في مناهج إعداد المفتين وإنشاء وحدات بحثية متخصصة داخل مؤسسات الإفتاء لفتاوى مستقبلية، بما يتيح الاستجابة العقلانية للتحديات التي تفرضها متغيرات العصر الرقمي.
في إطار الجهود العلمية لتطوير خطاب الفتوى في الغرب، قدم الدكتور مهاجري زيان، رئيس المجلس الأوروبي للمراكز الإسلامية في جنيف بسويسرا، ورقة بحثية بعنوان “صناعة المفتي الصالح في أوروبا: مواجهة فوضى الفتوى والتأثيرات الأيديولوجية في عصر الذكاء الاصطناعي” ضمن فعاليات المؤتمر.
وفي بداية محاضرته تحدث عن التحولات الكبرى التي يشهدها مجال الفتوى نتيجة التقدم التكنولوجي وانتشار الذكاء الاصطناعي، وأثر ذلك على مصداقية الفتاوى وضبط مرجعياتها في بيئة أوروبية متعددة الثقافات.
في هذا السياق، أوضح الباحث أن مواجهة التحديات الراهنة تتطلب دراسة معمقة لواقع الجاليات المسلمة في أوروبا، وتحديد مواطن الخلل التي تُمكّن من انتشار الفتاوى غير المنظمة. ومن أبرز هذه التحديات غياب مرجعية موحدة، واعتماد بعض الأفراد على فتاوى من سياق اجتماعي وثقافي مختلف عن السياق الأوروبي، وتدخل جماعات ذات أجندات سياسية أو أيديولوجية في الساحة الإفتائية.
وأشار إلى أن واقع الفتاوى في أوروبا يتسم بتعدد الجهات، وتضارب المرجعيات، وغياب التنسيق المؤسسي. وهذا يفتح الباب أمام تفسيرات فردية غير مدروسة تنتشر عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، لتصل إلى الشباب الذين يواجهون أصلًا تحدي الحفاظ على هويتهم الإسلامية في بيئة منفتحة ومتعددة الثقافات.
كما أكد الباحث أن الجماعات المتطرفة تستغل الفضاء الرقمي والذكاء الاصطناعي لإنشاء منصات وشخصيات افتراضية تُقدم نفسها كمفتين موثوق بهم. لكنها في الواقع أدوات لتجنيد الشباب المسلم والتأثير عليهم نفسيًا وفكريًا من خلال تحليل بياناتهم وتكييف الخطاب بما يتناسب مع ميولهم ونقائصهم الفكرية. لذا، فإن مكافحة هذه الظاهرة ضرورة ملحة، وتتطلب أدوات ضبط قانونية ومعرفية وتكنولوجية لمنع انتشار هذه الأساليب المضللة.
وخلصت الدراسة أيضًا إلى أن غياب منظومة فتاوى أوروبية موحدة يؤدي إلى تفاقم الانقسامات بين المجتمعات الإسلامية. ويُسهم وجود مرجعية معاصرة ومعتدلة قادرة على توظيف التقنيات الحديثة في الحد من انتشار الفتاوى المتطرفة. وخلصت الدراسة أيضًا إلى أن دمج التقنيات الحديثة، بما فيها الذكاء الاصطناعي، في خدمة الفتوى، شريطة أن يتم ذلك في إطار رقابة شرعية ومهنية، يُمكن أن يكون أداة فعّالة لنشر الفتاوى الصحيحة.
في ختام بحثه، قدّم الدكتور زيان عددًا من التوصيات، أبرزها الدعوة إلى إنشاء هيئة أوروبية عليا للفتوى، مستقلة عن التأثيرات الخارجية، تعمل مع المؤسسات الدينية والمجتمعات المحلية. كما دعا إلى إنشاء منصات رقمية بإشراف خبراء لنشر الفتاوى الموثوقة، وتطوير برامج تدريبية للمفتين، تشمل التدريب على مهارات التواصل وفهم السياقات الاجتماعية الأوروبية. كما أكد على أهمية التعاون بين مختلف الجهات المعنية لضمان انضباط الخطاب الديني وفعاليته، بما يخدم المسلمين في أوروبا.
من جانبه، أكد الدكتور محمد الأمين محمد سيلا، رئيس قسم البحوث والدراسات بمجمع الفقه الإسلامي الدولي، في بحثه “المفتي العقلاني في مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي”، أن الذكاء الاصطناعي لص محترف وماهر، إذ يسرق المعلومات التي سبق أن أرسلها ونشرها باحثون ومؤلفون. وأكد أن المفتي والسائل لا ينفصلان، وأن المفتي خادم الله ورسوله إلى السائلين. كما أوضح أن على السائل تطبيق ما علمه والعمل به حتى لا يُحاسب يوم القيامة. وذكر أيضًا أن المفتي لا يستحي ولا يخشى من قول “لا أعلم”، فقول “لا أعلم” نصف المعرفة، بينما الذكاء الاصطناعي لا يعتمد على هذا المبدأ.
وأشار إلى أن الواقع الحالي يتطلب من المتعلمين والمثقفين أن يلعبوا دوراً كبيراً في استخدام هذه التقنية المعلوماتية الحديثة، فهي وسيلة مشروعة، خاصة لعلماء الشريعة وطلبة العلم.
من منظور بحثي مختلف، ناقش الأستاذ الدكتور علي عثمان شحاتة، رئيس قسم الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة بجامعة الأزهر، التباين الدقيق بين إغراءات هذه التقنية ومخاطرها على العمل الإفتائي في بحثه المعنون “الذكاء الاصطناعي والفتاوى في عصرنا: بين الحيطة والحذر والآليات النافعة”. وأوضح شحاتة أن سرعة أدوات الذكاء الاصطناعي وانتشارها الواسع قد يغري الناس باستخدامها دون رادع، مما يشكل تهديدًا للمنهجية العلمية والفقهية التي تميز الفتاوى عن غيرها من أشكال إنتاج المعرفة.
أشار الدكتور عثمان إلى أن الفتاوى ليست مجرد آراء بشرية أو أقوال آلية بلا مسؤولية، بل هي أقوال عن سلطان الله، تتطلب حذرًا والتزامًا علميًا عاليًا. وحذّر من الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إصدار الفتاوى دون إشراف علمي دقيق، فالبشر يتمتعون بحساسية عالية، وفهم للمقاصد، وقدرة على تقدير ظروف طالبي الفتوى.
في عرضه البحثي، أكد شحاتة أن تجاهل الذكاء الاصطناعي والاعتماد عليه بشكل مبالغ فيه خطأ استراتيجي. ودعا إلى استخدامه في رصد الفتاوى الباطلة، والرد على الشبهات، وتتبع المحتوى المتطرف. وهذا يتطلب رقابة مؤسسية منضبطة تعمل وفق منهجية علمية مبنية على مراجع ثابتة ومقاصد شرعية.
وأكد أيضاً على أهمية إنشاء محركات بحث فقهية ومنصات رقمية موثوقة خاضعة للهيئات الشرعية الرسمية، وقادرة على التفاعل مع الجمهور المسلم في الفضاء الرقمي، ومنع المحتوى العشوائي أو الهادف الذي لا يستند إلى أدلة علمية ولا يرتبط بأصول الفتاوى الصحيحة.
في ختام عرضه، أكد الباحث على ضرورة تدريب الكوادر الشرعية على الاستخدام الذكي للذكاء الاصطناعي، وتطوير مهاراتهم في تحليل البيانات، والاستفادة من النماذج اللغوية المتعارف عليها. ودعا إلى إنشاء مراكز بحثية متخصصة تجمع بين الشريعة والتكنولوجيا، مهمتها تطوير أدوات فتوى رقمية عقلانية تحمي المجتمع من فوضى الفتاوى.