يحتفظون بدليل الجريمة.. أطفال غزة في متاهة الحرب فاقدين القدرة على الحياة
قدمت سلسلة “أفلام قنوات الأخبار الوثائقية” التابعة لشركة الخدمات الإعلامية المتحدة فيلمًا وثائقيًا بعنوان “يحتفظون بأدلة الجريمة… أطفال غزة في متاهة الحرب يفقدون قدرتهم على الحياة”. يصور الفيلم مشاهد مؤلمة وواقعية لأطفال غزة المتأثرين بالحرب. قد تكون بعض هذه المشاهد صادمة نفسيًا للمشاهد.
“أتمنى أن يتم التوصل إلى وقف إطلاق نار ونعود إلى منازلنا”، بدأ أحد الأطفال حديثه، وخلفه مشهد دمار وخراب. تفحص طفل آخر بطانية ممزقة كما لو كان يحاول قراءة خريطة سرية. لم يكن يحمل لعبة، بل قطعة حديد صغيرة أخذها من موقع الانفجار. احتفظ بها كما يحتفظ الكبار بتعويذة أو دليل على جريمة لا يريدون نسيانها.
لم تكن في ذهنه مشاهد كرتونية، بل سيناريو معقد: شارع جانبي، عدو عابر، ويد تضغط على المفجر. لم يكن يعرف قوانين نيوتن، لكنه فهم قانون التوقع: كيف يصمت كل شيء قبل أن يصطدم الصاروخ.
خياله ليس مشهدًا من فيلم، بل متاهة هندسية مبنية على الأنقاض، يحاول فيها إعادة صياغة مفهوم الأمن. يتخيل الأطفال في أماكن أخرى أنهم أبطال خارقون، لكن في غزة… البطل لا يطير، البطل فقط… لا يموت.
تشير التقارير النفسية إلى أن الأطفال الفلسطينيين يفقدون إحساسهم بالوقت. لا فرق بين الليل والنهار عندما يسقط السقف على رأس أختهم، ولا فرق بين الحلم واليقظة عندما يرون والدهم يدفن جاره ثم يعود لإنهاء واجبه في الرياضيات. في هذا الجزء من العالم، لا يستخدم الأطفال خيالهم للهروب، بل لفهم معادلات مستحيلة.
كيف يعيش المرء وهو يواجه الموت كل يوم؟ كيف يضحك وهو يعلم أن الغد قد لا يأتي أبدًا؟ لا يتتبع الفيلم الوثائقي بقع الدم على الجدران، بل يستكشف الشيفرة التي نقشتها الحرب في دماغ الطفل: شيفرة خفية تتحكم في نومه وصمته ورسوماته البسيطة.
لم تعد غرفة اللعب ساحة لعب، بل مختبرًا للتشفير الداخلي. كل دمية تحمل أثر صدمة، وكل رسم على الجدار خريطة تشريحية لوعي مُحطّم. لا يُقرأ بالحبر، بل يُشرّحه الخوف المتكرر، والصمت المُطبق، والرماد الذي يترسب تحت أظافر الطفولة.
لم تعد الطفولة في غزة كما نعرفها. منذ اندلاع الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، خيم الاضطراب على الأرض والسماء. ووفقًا لتقرير للأمم المتحدة صدر في يوليو/تموز 2025، قُتل أكثر من 18 ألف طفل في غزة، بينما تجاوز عدد القتلى والجرحى 50 ألفًا. ومع ذلك، فإن هذا الرقم لا يشمل سوى الجثث.
هذه الشقوق الصغيرة التي حفرتها الحرب في عقل الطفل، في خياله، وفي نظرته لنفسه وللعالم. الخيال، ذلك الملاذ الأخير، تحول في غزة من مساحة للعب إلى سلاح نفسي للبقاء.
أتمنى أن تنتهي الحرب لنعود إلى ديارنا، ونعود إلى المدرسة، ونتعلم القراءة من جديد، قال أحد الأطفال. وأضاف آخر مرتجفًا: “لقد ضربوهم هنا. لم أصدق ما حدث”. وعلق آخر: “الآن لا أستطيع الوقوف، لا أستطيع فعل أي شيء”.
لا يتخيل الطفل المغامرات في الغابة أو على السحاب، بل يتخيل سيناريوهات البقاء على قيد الحياة: صاروخ يسقط، جدار ينهار، ملجأ يغلق.
وفقًا لتقارير منظمة “أنقذوا الأطفال”، يُعيد 82.8% من أطفال غزة تمثيل مشاهد العنف في ألعابهم ورسوماتهم اليومية. يُسمى هذا في علم النفس “التمثيل الدرامي الدفاعي”، وهي آلية لا واعية يُعيد فيها الطفل بناء المأساة في صورة يتحكم بها، وإن كان ذلك سطحيًا فقط.
اللعب في غزة ليس لعبة، بل محاولة لا واعية للسيطرة على الألم وترويض المأساة. لكن الزمن متشظٍّ كبناء. الطفل الذي نشأ على دويّ القنابل لم يعد يميز بين الليل والنهار، وبين الأمس واليوم.
وثّق تقريرٌ صادرٌ عن منظمة “طفل الحرب” إفاداتٍ لأطفالٍ يعتقدون أن القصف لم يتوقف لأشهر، رغم فترات الهدوء. تُعرف هذه الظاهرة بـ”الفوضى الزمنية”: إذ يتلاشى الحاضر، ويستمر الماضي، ويبقى المستقبل غامضًا.
وتشير دراسة أجرتها اليونيسف عام 2025 إلى أنه في حين أن 43% من الأطفال يفضلون البقاء صامتين حتى أثناء جلسات الإرشاد النفسي، فإن الرسم أصبح وسيلة داخلية للمقاومة؛ حيث يرسم 67% من الأطفال منازل مدمرة، ويستخدم 58% منهم اللون الأحمر كلون رئيسي.
تؤكد بيانات مركز غزة للصحة النفسية أن أكثر من 70% من الأطفال يُظهرون أعراض انسحاب نفسي ونوبات هلع. لم يعد الرسم نشاطًا فنيًا، بل أصبح لغة عصبية بديلة يُعبّر الأطفال من خلالها عن فوضاهم العاطفية.
أظهرت دراسة أجريت عام 2019 ونشرت في مجلة Frontiers in Psychology أن الأطفال الذين يعانون من صدمات نفسية مستمرة يظهرون تغيرات بيولوجية عميقة في بنية الدماغ.
يؤكد تقرير منظمة الصحة العالمية لعام ٢٠٢٥ أن معظم أطفال غزة يعيشون في حالة من التوتر والقلق الدائم، حتى في ظل الهدوء النسبي. ويفتقر جهازهم العصبي إلى الشعور بالأمان.
يُفسَّر كل ما يحيط بالطفل على أنه تهديد. لا تؤثر الحرب على السلوك والعواطف فحسب، بل تصل إلى الدماغ أيضًا. والنتيجة: جهاز عصبي يعيش في حالة حرب حتى بعد انتهاء القصف. وهنا نصل إلى جوهر الحقيقة: الحرب لا تنتهي بصمت المدافع. إنها تتكرر في عقول الصغار، في نوم الطفل، في صمته، وفي خياله المشوه.
يُسلّط الفيلم الوثائقي الضوء على أن “الاحتلال الإسرائيلي” هو السبب الجذري لسفك الدماء المستمر. يتميز بسياسة الحصار، والهجمات المُستهدفة على المنازل والمدارس، وخلق واقع بلا أفق. ما يعيشه هؤلاء الأطفال ليس مجرد صدمة الحرب، بل استراتيجية مُمنهجة لتقويض البنية النفسية والمعرفية لجيل بأكمله.
وتظهر الدراسات طويلة الأمد أن الأطفال الذين يكبرون في بيئة الحرب المستمرة هم أكثر عرضة للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب المزمن، واضطرابات الشخصية، وصعوبات التعلم، ومشاكل التفاعل الاجتماعي.
وحذر تقرير منظمة الصحة العالمية من أن هذه التأثيرات قد لا تكون فورية بل قد تستمر لعقود من الزمن، مما قد يؤثر على قدرة هؤلاء الأطفال على الحب واتخاذ القرارات وبناء مستقبل متوازن.
ويؤكد الفيلم أن إعادة البناء الحقيقية لا تبدأ من الخرسانة، بل من الداخل، في طفولة لم تكن لديها فرصة للبراءة، وفي خيال لم يُخلق لتقليد التفجيرات، بل لخلق حلم.