تدهور قياسي.. ارتفاع الواردات يعمق أزمة الجنيه السوداني

تجاوز الجنيه السوداني حاجز 3000 جنيه للدولار لأول مرة، بعد أن ظل مستقرا نسبيا عند 570 قبل اندلاع القتال في أبريل/نيسان 2023، في حين يبقى سعر الصرف الرسمي عند 445 جنيها للدولار.
الخبير الاقتصادي محمد الناير: تأخير تشكيل الحكومة عزز المضاربة على الدولار في السوق السوداء، وعدم اكتمال عملية تبادل العملات ساهم في ذلك.
الأكاديمي عصام الزين الماحي: أدى الاعتماد على الواردات إلى تفاقم انخفاض قيمة الجنيه المصري، وتعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي، وارتفاع الأسعار. أزمة العملة المستمرة تهدد الأمن الغذائي وتزيد من معدلات الفقر.
يتعرض الاقتصاد السوداني لضغوط متزايدة نتيجة استمرار انخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار، وارتفاع التضخم، وارتفاع أسعار السلع. في الوقت نفسه، يغرق البلد العربي في صراع مسلح دخل عامه الثالث. ويترتب على ذلك عدم استقرار سياسي وتعطل آليات السوق الرسمية.
يأتي هذا التدهور في وضع العملة في سياق بالغ التعقيد. فقد شهدت العملة الوطنية انخفاضًا غير مسبوق في السوق الموازية، متجاوزةً حاجز 3000 جنيه مصري مقابل الدولار، بعد أن ظلت مستقرة نسبيًا عند 570 جنية مصري قبل اندلاع القتال في أبريل/نيسان 2023.
منذ ذلك الحين، يخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع حربًا أودت بحياة أكثر من 20 ألف شخص، وشرّدت نحو 15 مليونًا، وفقًا للأمم المتحدة والسلطات المحلية. وتُقدّر دراسة أجرتها جامعات أمريكية عدد القتلى بنحو 130 ألفًا.
حدث انهيار الجنيه السوداني وسط زيادة حادة في الطلب على العملات الأجنبية نتيجةً للزيادة الكبيرة في واردات المواد الغذائية الأساسية والوقود والأدوية. في الوقت نفسه، كان هناك نقص في العملات الأجنبية وغياب سياسة اقتصادية فعّالة. علاوةً على ذلك، اتسعت الفجوة بين سعر الصرف في السوق الموازية والرسمية، حيث لا يزال سعر صرف الدولار الواحد 445 جنيهًا.
تزايد التكهنات
يعتقد الخبير الاقتصادي السوداني محمد الناير أن الانخفاض الحاد في قيمة العملة الوطنية أمر طبيعي في الدول التي تعاني من الحروب. ويوضح أن مثل هذه الظروف تؤدي عادةً إلى “ارتفاع التضخم والبطالة والفقر وانخفاض سعر الصرف”.
وأضاف لوكالة أنباء الأناضول أن الجنيه السوداني كان مستقرًا نسبيًا عند 570 جنيهًا للدولار في بداية الحرب، لكنه انخفض بعد عام، ليصل إلى ما بين 2300 و2500 جنيه. “وظل على هذا الحال لمدة عام تقريبًا قبل أن يتجاوز حاجز 3000 جنيه في الأيام الأخيرة”.
وعزا هذا الانهيار الأخير إلى أسباب عدة، أبرزها “التأخر في تشكيل حكومة بالصلاحيات المناسبة بعد تكليف رئيس الوزراء كامل إدريس (في مايو/أيار الماضي)”، ما أدى إلى “تراخي” في العمل الحكومي، استغله المضاربون لتوسيع عملياتهم في السوق الموازية.
وأشار الناير إلى أن محاولة مقايضة العملة كانت جزئية وغير مكتملة، ما أدى إلى خروج كميات كبيرة من العملة المتداولة خارج النظام المصرفي وتسهيل المضاربة في السوق السوداء.
في ١٠ ديسمبر ٢٠٢٤، شرع بنك السودان المركزي في عملية استبدال الأوراق النقدية من فئتي ٥٠٠ و١٠٠٠ جنيه في عدة ولايات. وجاء ذلك نتيجةً لتزايد تداول الأوراق النقدية مجهولة الهوية، مما زاد السيولة وأثّر على استقرار الأسعار. واستمرت عملية الاستبدال حتى ٢٣ ديسمبر من الشهر نفسه.
وتابع الخبير الاقتصادي: “إن ما يقرب من 90 في المائة من المعروض النقدي كان خارج النظام المصرفي قبل الحرب، وهذا الوضع لم يتغير كثيرا على الرغم من المحاولات المحدودة لتجميعه واستبداله”.
السياسة النقدية
أكد الناير أن البنك المركزي لم يتوقف عن العمل رغم تدمير مقره وفروعه في الخرطوم. وأشار إلى أن البنك المركزي تمكن من استعادة الأنظمة المصرفية وتشغيل التطبيقات الإلكترونية التي ساعدت المواطنين خلال الحرب.
ولكنه أكد أن البنك المركزي “يظل مسؤولا عن السياسة النقدية وبالتالي فهو مسؤول أيضا عن الانخفاض الأخير في قيمة الجنيه” ودعا إلى “اتخاذ تدابير صارمة لمنع المزيد من الانهيار”.
وتوقع أن لا يستمر التراجع الحالي فوق مستوى 3 آلاف جنيه مصري، مشيرا إلى أنه على الرغم من الصعوبات فإن الاقتصاد السوداني “صمد حتى الآن بفضل موارده الطبيعية الهائلة وخاصة الذهب”.
وأشار إلى أن السودان حصل على نحو ملياري دولار من صادرات الذهب، مضيفاً: “إذا تم الحد من التهريب وإنشاء بورصة للذهب فإن الإيرادات يمكن أن تتضاعف إلى أربعة مليارات دولار، وهو ما سيساعد على استقرار سعر الصرف”.
الاستقرار النسبي
وأضاف الناير أن البلاد “تتجه نحو استقرار نسبي في سعر الصرف”، لكنه وضع عددا من الشروط، بما في ذلك استكمال عملية تبادل العملات، وتنظيم التحويلات المالية للشركات، ودمج التدفقات النقدية في النظام المصرفي، ومنع الاتجار غير المشروع بالعملة الأجنبية، وترشيد استيراد السلع الأساسية.
ودعا أيضاً إلى “زيادة الصادرات لتقليص العجز التجاري، وزيادة الإيرادات العامة دون المساس بمعيشة المواطنين، وترشيد الإنفاق العام لتقليص عجز الموازنة”.
وحذر من أن استمرار الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق الموازي سيدفع المغتربين إلى اللجوء إلى قنوات غير رسمية، وهو ما “لا يخدم الاقتصاد الوطني”. وأكد أن هؤلاء المغتربين من بين المتضررين من الحرب، ويعيلون أسرهم في الداخل والنازحين.
الواردات المفرطة
من جانبه أوضح عميد كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بجامعة المشرق عصام الزين الماحي أن اعتماد السودان بشكل كبير على الواردات فاقم أزمة العملة، حيث إن “قيمة الصادرات أقل بكثير من قيمة الواردات، حيث توقف الإنتاج في معظم القطاعات بسبب الحرب”.
قال الماحي لوكالة الأناضول إن الحرب، التي دخلت عامها الثالث، أدت إلى شلل شبه كامل في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية، وأضعفت الإنتاج المحلي، وتسببت في غياب الاستراتيجيات الاقتصادية. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار وزيادة الطلب على الدولار لسد الفجوة في السلع المستوردة.
وأكد أن تضافر تراجع الإنتاجية و”غياب سياسة اقتصادية فعّالة” أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأساسية، وانخفاض في القدرة الشرائية، وانهيار الجنيه. وأشار إلى أن تهريب الصادرات السودانية، كالذهب والماشية والصمغ العربي، قد فاقم الأزمة وزاد الضغط على سوق الصرف الأجنبي.
القطاعات المتضررة
وفيما يتعلق بالقطاعات الأكثر تضررًا، قال الماحي إن القطاع الزراعي من بين أكثر القطاعات تضررًا نتيجة الارتفاع الحاد في أسعار المدخلات المستوردة، كالأسمدة والمبيدات الحشرية والآلات الزراعية، مما جعله غير قادر على المنافسة عالميًا. كما تأثر القطاع الصناعي بارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتعرض لأضرار جسيمة نتيجة الحرب.
وأضاف: “يواجه قطاع التجارة أيضًا ركودًا حادًا نتيجة ارتفاع أسعار السلع المستوردة، بينما يعاني قطاع النقل من ارتفاع أسعار الوقود وقطع الغيار، ويعاني قطاع الطاقة من ارتفاع تكاليف التشغيل. ويُعتبر قطاع الرعاية الصحية الأكثر تضررًا بسبب التكاليف الباهظة للأدوية والمعدات المستوردة”.
وأوضح الأكاديمي السوداني أن انخفاض قيمة الجنيه أدى إلى “ارتفاع مباشر في أسعار المواد الغذائية، خاصة السلع المستوردة مثل القمح، مما أثر سلبا على الأمن الغذائي”.
وحذر من أن استمرار انهيار العملة في ظل غياب الاستقرار السياسي والعسكري “سيؤدي إلى تفشي التضخم وفقدان القدرة الشرائية لدى شريحة كبيرة من المواطنين، مما سيؤدي بدوره إلى زيادة الفقر والبؤس والاعتماد بشكل أكبر على المساعدات الإنسانية”.
واختتم الماحي كلمته مؤكدًا أن تجاوز الأزمة يتطلب اعتماد استراتيجية إنتاجية وطنية قائمة على دعم الزراعة والصناعة، وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وضبط الحدود، واستعادة الثقة بالمؤسسات الاقتصادية. وهذه كلها عناصر أساسية لتحقيق التوازن والاستقرار.