زيارة تبون لإيطاليا.. اتفاقيات مع روما وانزعاج في باريس

منذ 18 ساعات
زيارة تبون لإيطاليا.. اتفاقيات مع روما وانزعاج في باريس

حققت زيارة الرئيس الجزائري إلى إيطاليا نجاحًا باهرًا، إذ تم توقيع أكثر من 40 اتفاقية. إلا أنها قوبلت باستياء في فرنسا، وخاصةً في أوساط اليمين المتطرف. الباحث الجزائري جمال قسوم: انزعاج الفرنسيين نابع من النزعة الاستعمارية والشعور بأنهم فشلوا في عزل الجزائر دبلوماسيا. مجيد التهامي ناشط في الجالية الجزائرية بفرنسا: روما اختارت الواقعية والمصالح المشتركة مع الجزائر، بينما باريس مترددة وضيقة الأفق.

أثارت زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قبل أيام، إلى إيطاليا، الحليف الاستراتيجي لبلاده والشريك الاقتصادي العالمي الرائد، قلقا في الأوساط الفرنسية، وخاصة بين اليمين المتطرف.

خلال زيارته الثانية لإيطاليا منذ توليه منصبه نهاية عام 2019، انعقدت القمة الحكومية الخامسة رفيعة المستوى بين تبون ورئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني وأعضاء حكومتي البلدين.

كما استقبل الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا نظيره الجزائري الذي زار بدوره الفاتيكان واجتمع مع البابا ليون الرابع عشر.

وتوجت الزيارة بالتوقيع على أكثر من 40 اتفاقية ومذكرة تعاون بين الجزائر وإيطاليا، 14 منها ذات طابع مؤسسي، في حين تم توقيع الباقي بين شركات عمومية وخاصة من كلا البلدين.

وتغطي الاتفاقيات الموقعة قطاعات الطاقة والدفاع والأمن والتعدين والسيارات والأدوية والتكنولوجيا والرقمنة والتعليم العالي والزراعة ومصايد الأسماك وتربية الأحياء المائية والثقافة وغيرها.

خلال الزيارة، استضافت الدولتان منتدى اقتصاديا رفيع المستوى حضره أكثر من 500 من رؤساء المؤسسات العامة والخاصة والخبراء ورجال الأعمال من البلدين.

** 15 مليار يورو في التجارة

وتظهر البيانات الرسمية الصادرة عن وكالة الترويج والتدويل للشركات الإيطالية في الخارج (التابعة لوزارة الخارجية) أن التجارة مع الجزائر بلغت حوالي 15 مليار يورو في عام 2024.

ومن إجمالي التجارة الثنائية، صدرت الجزائر حوالي 12 مليار يورو إلى روما في عام 2024، معظمها الغاز الطبيعي والنفط ومشتقات البترول والمواد الخام.

وفي المقابل، استوردت مصر الآلات والمعدات الصناعية في عدة قطاعات، وكذلك المعدات الزراعية والأدوية من إيطاليا، بقيمة بلغت نحو ثلاثة مليارات يورو.

وفي الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، وفقا للوكالة ذاتها، بلغ حجم التجارة بين البلدين 4.49 مليار يورو، بزيادة قدرها 6.7 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

إيطاليا هي الشريك الاقتصادي الأهم للجزائر عالميًا. روما هي الوجهة الرئيسية لصادرات الجزائر من الغاز والنفط. منذ الحرب بين روسيا وأوكرانيا، أصبحت إيطاليا أيضًا أهم مورد للغاز للجزائر منذ عام ٢٠٢٢، حيث تغطي أكثر من ثلث احتياجاتها السنوية.

في حين عززت روما شراكتها مع الجزائر على مر السنين في العديد من القطاعات، مثل قطاع السيارات من خلال مصنع فيات في ولاية وهران الغربية ومشروع كبير لمجموعة BF الإيطالية في القطاع الزراعي الصحراوي لإنتاج القمح القاسي والبقوليات الجافة.

وقال مصدر حكومي جزائري لوكالة الأناضول، إن البلدين يدرسان توسيع استثمارات مجموعة “بي إف بونيفيكي فيراريسي” في إنتاج القمح القاسي والبقوليات والمعكرونة بولاية تيميمون جنوب غرب الجزائر، لتشمل الحليب واللحوم الحمراء والأعلاف الحيوانية.

ومن المقرر استثمار إجمالي قدره 420 مليون يورو في المشروع الأول. وسيتم تمويل 49 في المائة من هذا المبلغ من قبل BF، أكبر مجموعة زراعية في إيطاليا، والباقي من قبل صندوق الاستثمار الوطني، وهو صندوق الثروة السيادية والذراع المالية للحكومة الجزائرية.

**المتاعب الفرنسية

وبعد زيارة تبون إلى روما، ظهرت مؤشرات واضحة على الاستياء في وسائل الإعلام الفرنسية، وأصبحت القضية موضوع نقاش واسع النطاق على القنوات الإخبارية المحلية.

وخلال هذه المناقشات، تعرضت الدبلوماسية الفرنسية لانتقادات حادة بسبب عجزها عن حماية مصالح البلاد في منطقة المغرب العربي، رغم أن تعزيز الشراكة مع إيطاليا اعتبر “نجاحا باهرا” للدبلوماسية الجزائرية.

وبثت قناة “سي نيوز” الفرنسية اليمينية المتطرفة لقطات للزيارة، تظهر تبون وهو يسير بجانب ميلوني وسط الاحتفال الرسمي.

علق الصحفي الفرنسي لويس دي راغونيل على هذه الصور قائلاً: “إنه لأمرٌ مُهينٌ للغاية أن تكون فرنسيًا. إنه أمرٌ يصعب تحمّله”. وأعرب عن اعتقاده بأن ميلوني وجّه رسالةً واضحةً تتجاهل موقف باريس، وتسعى إلى تعزيز علاقات إيطاليا بالجزائر كدولةٍ ذات سيادة.

وأشار إلى أن زيارة تبون إلى روما كانت “زيارة دولة بكل رمزيتها وبروتوكولها”، مضيفا: “إذا قامت ميلوني بهذا فذلك لأنها تشعر بالتمكين من قبل الشعب الإيطالي وليست خائفة من فرنسا على الإطلاق”.

وتابع: “ميلوني دافعت عن المصالح العليا لبلادها بينما باريس منشغلة بـ«التعصب الأخلاقي»، في إشارة إلى موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المؤيد للمغرب في قضية الصحراء الغربية.

** مسؤولية ماكرون

في السياق ذاته، أبدى برنارد كوهين حداد، رئيس مركز الأبحاث مارسيل إتيان، انزعاجه من مستوى الشراكة الجزائرية الإيطالية، وقال إن ماكرون يتحمل مسؤولية ما يحدث بسبب قراره بشأن منطقة الصحراء.

وأضاف لشبكة سي نيوز: “ما حدث بعد زيارة تبون صفعة للدبلوماسية الفرنسية. من المؤسف أن أكون فرنسيًا اليوم وأرى هذه الصفعة”.

وحذر من أن إيطاليا، بسبب “حنكتها الدبلوماسية” في التعامل مع قضية الصحراء، يمكن أن تصبح بوابة الجزائر إلى الاتحاد الأوروبي مقارنة بباريس ومدريد.

واعتبر أن خسائر فرنسا في الجزائر غير ضرورية، وقال إنها كانت نتيجة “حسابات سياسية خاطئة” كان على باريس أن تدفع ثمنها، في حين يمكن لروما تحقيق مكاسب بهدوء دون استفزاز الجزائر.

جاءت الزيارة أيضًا بعد أيام من إعلان المفوضية الأوروبية عزمها الشروع في إجراءات تحكيم بشأن اتفاقية الشراكة مع الجزائر. وقيل إن فرنسا هي من قادت هذه الخطوة.

لكن ظهور الرئيس تبون في روما، حيث وقع اتفاقيات تعاون مع إيطاليا في مجالات الطاقة والصناعة والزراعة، فسره المراقبون في فرنسا على أنه ضربة جديدة لمحاولات باريس إقناع الاتحاد الأوروبي بتبني موقف موحد تجاه الجزائر.

** علاقات الأزمة

منذ تولي الرئيس تبون السلطة عام ٢٠١٩، تراجع الوجود الاقتصادي الفرنسي تدريجيًا. غادرت عدة شركات البلاد، منها شركة راتبي باريس، التي كانت تُشغّل مترو الجزائر العاصمة، وشركة سيغس، التي تُشرف على شبكة المياه والصرف الصحي في العاصمة وولاية تيبازة الساحلية المجاورة.

كما خفضت الجزائر بشكل كبير وارداتها من فرنسا من العديد من المنتجات، بما في ذلك الحبوب (خاصة القمح)، والأبقار الحلوب، والعجول المخصصة للذبح والتسمين، ومنتجات الجبن، وغيرها.

كما تفاقمت الأزمة الدبلوماسية بين البلدين، والتي اندلعت بسبب اعتراف الرئيس ماكرون بمقترح الحكم الذاتي المغربي، الذي قدمه المغرب قبل سنوات كحل للصراع في منطقة الصحراء الغربية.

وتدهورت العلاقات بشكل أكبر بعد اعتقال الكاتب الجزائري والمواطن الفرنسي بوعلام صنصال في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات ومواجهته تهم أخرى تتعلق بالهجرة.

منذ العام الماضي، سحبت الجزائر سفيرها من باريس وخفّضت تمثيلها إلى قائم بالأعمال. في المقابل، استدعت فرنسا سفيرها من الجزائر وخفّضت تمثيلها إلى قائم بالأعمال.

** عطل العزل

يرى جمال قسوم، المحلل السياسي وعالم الاجتماع والناشط الجزائري المقيم في فرنسا، أن الاضطرابات التي عبرت عنها السلطات الفرنسية، وكذلك الأوساط السياسية والإعلامية، يمكن تفسيرها بعدة عوامل، منها “النزعات الاستعمارية المتبقية”.

وأضاف قسوم، في تصريح لوكالة الأناضول، أن هناك عاملًا آخر يتعلق بـ”شعور الإهانة والإذلال المعبر عنه في الأوساط السياسية الفرنسية”. ولفت إلى أن هذه النقطة مرتبطة بالتزام باريس بعزل الجزائر.

وأوضح أن هذا الشعور “مرتبط بكون باريس تراهن على عزل الجزائر دبلوماسيا، ليس فقط من خلال فرنسا، بل وقبل كل شيء من خلال الاتحاد الأوروبي”.

واعتبر أن “زيارة تبون إلى روما دليل على عدم تضامن دولة أوروبية كبيرة كإيطاليا، وهو ما يقوض جهود العزل”.

وأشار قسوم إلى أن فرنسا ليس لها أي نفوذ سياسي أو دبلوماسي أو اقتصادي على الجزائر.

** سعر الإغلاق

يعتقد ماجد التهامي، وهو ناشط في الجالية الجزائرية بفرنسا ورئيس شركة بناء خاصة، أن أهمية علاقات الجزائر مع إيطاليا تنبع من اختلاف جوهري في الرؤية بين باريس وروما.

وقال لوكالة الأناضول للأنباء إن إيطاليا، إلى جانب الجزائر، اختارت “طريق الواقعية والمصالح المشتركة”، في حين لا تزال فرنسا تعاني من “التردد الاستراتيجي والعزلة، استنادا إلى رؤية قديمة لم تعد صالحة في عالم متغير”.

واعتبر أن الغاز الجزائري لم يعد مجرد مورد للطاقة بل أصبح أداة سيادية تعبر من خلالها الجزائر عن خياراتها في العلاقات الدولية.

وبحسب المتحدث الرسمي، أصبحت سوناطراك الآن أكثر من مجرد مورد غاز جزائري لإيطاليا، بل أصبحت شريكًا استراتيجيًا يُعزز استقلال روما في مجال الطاقة. ويتجسد ذلك في التعاون المؤسسي الوثيق مع مجموعة إيني الإيطالية، بعيدًا عن أي اعتبارات أيديولوجية أو استعمارية.

من جانبه، يرى التهامي أن الاضطرابات في فرنسا لا تعود إلى تحركات جزائرية أو إيطالية، بل تعكس فراغا استراتيجيا في باريس.

وأشار إلى أن فرنسا، بسبب التأخر في تطوير بنيتها التحتية للغاز الطبيعي المسال، وعدم وجود رؤية واضحة لدول المغرب العربي، وقفت مكتوفة الأيدي تراقب التغيرات الكبرى على حدودها.

وأكد أن الجزائر اليوم لا تقيم علاقاتها على أساس المجاملات أو الوعود العاطفية، بل على أسس واقعية ومصالح مشتركة.

وفي هذا السياق، قال: “إن التحالف مع إيطاليا هو ثمرة رؤى مشتركة في مجالات الطاقة والأمن والاقتصاد، وليس موجهًا ضد أي طرف. فالجزائر ببساطة دولة ذات سيادة، وتدير شؤونها وفقًا لأولوياتها الخاصة، لا أولويات الآخرين”.


شارك