حين تموت الحِرَف بصمت.. خياط الكرات الذي يُنعش نبض الصنعة

منذ 4 ساعات
حين تموت الحِرَف بصمت.. خياط الكرات الذي يُنعش نبض الصنعة

بعض المهن لا نختارها، بل هي من تختارنا. ففي أواخر ستينيات القرن الماضي، وجد مصطفى نفسه طفلاً في ورشة والده بحي الدرب الأحمر، يتعلم خياطة كرة القدم بالإبرة والخيط. ومنذ ذلك اليوم، لم يغادرها.

مرّت السنوات، وتغيّر كل شيء من حوله؛ تقلصت المهنة، وارتفعت الأسعار، وتضاءل الزبائن. إلا أنه بقي على حاله، ليس لأنه لم يجد سبيلاً آخر، بل لأنه آمن بما علّمه إياه والده: “الحرفية ولاء، وليست مجرد واجب”.

في نهاية زقاقٍ بلا اسم في أحد أزقة باب الخلق، وقبل أن يبدأ ضجيج ورش الأثاث وتنتشر رائحة الخبز الساخن من فرن الحي في الهواء، يجلس العم مصطفى، سبعينيُّ العمر، على كرسي خشبي، يُمرر إبرةً عبر جلدٍ ممزق. لا يُبدي أيَّ إشارةٍ أو إعلان. إنه هناك ببساطة. يُصلح الكرات ويُرمِّم ما لم يعد أحدٌ يرغب في ترميمه.

– ورشة الأب… من أول الموضوع

وُلد مصطفى عام ١٩٥٥، لكنه دائمًا ما يُصرّح بأن عمره الحقيقي لم يبدأ إلا عام ١٩٦٨، عندما التحق بورشة والده. هناك، تعلم خياطة الكرة – ليس كحرفة فحسب، بل كفنٍّ له طقوسه الخاصة وحساسيته الخاصة. يقول للشروق: “كنت أسمع صوت الإبرة تدخل وتخرج من جلدي، إلى جانب دقات قلب والدي”، يقول عم مصطفى، وهو يمرر أصابعه على الإبرة التي احتفظ بها لسنوات، كما لو كان يستذكر حياةً ماضية.

كان والده، الحاج محمد، من أشهر مُصلحي الكرات في الدرب الأحمر. كان نجوم كرة القدم في العصر الذهبي يزورونه بانتظام، وأبرزهم الكابتن أحمد مكاوي، أحد رموز النادي الأهلي في خمسينيات القرن الماضي: “كان يأتي إلينا ليحصل على كرات للتدريب، عندما كانت كرة القدم لا تزال لعبةً لا تجارةً”.

رحيل الأب والرحلة القادمة

في عام ١٩٧٣، انتقل هو ووالده إلى ورشة جديدة في حي باب الخلق. بعد خمس سنوات، توفي والده، فاستقر مصطفى وحيدًا في الورشة الصغيرة: “واصلتُ العمل لأبي، لا من أجل المال. علّمني وأعطاني المفاتيح. من المؤسف إغلاق الورشة وهو من أبقاها مفتوحة”.

الخياطة في زمن الاستيراد

يمرّ الوقت ببطء في ورشة العم مصطفى. رفوف خشبية مائلة، وكرات باهتة اللون، وخيوط مشدودة، ورائحة ممزوجة بالجلد والعرق والغبار. يلتقط كرة بالية وينقر عليها بإصبعه: “أتعرف على الكرة من شكلها. أعرف إن كانت ستصمد أسبوعًا، أو عامًا، أو أكثر”.

يفكّ الجلد بيديه بعناية، حتى لا يقطع البطانة، ويبدأ الخياطة بخيط قوي يُثبّت الكرة في مكانها لأطول فترة ممكنة. يقول مبتسمًا: “هذه الحرفة تتطلب صبرًا ويدًا تعرف كيف تُمسك الإبرة دون أن تُثقب القلب”.

يوضح العم مصطفى أنه لا يُصلح جميع الكرات، بل يختار تلك المصنوعة من الجلد، فهي تتحمل اللعب والخياطة: “ليست تلك الكرات الصينية التي تبدو كالجلد من الخارج لكنها مجوفة من الداخل. بمجرد أن تثقب، تُرمى”.

يتنهد وهو يتذكر الأيام القليلة الماضية، عندما كانت الورشة تعج بالنشاط وكانت طوابير الأطفال والمراهقين تتشكل خارج الباب، ينتظرون دورهم: “بمجرد وصولي، كانوا يجلسون بالفعل على الرصيف، ينتظرون… كان الجميع يحمل كرة قدم ويحثونني: لقد حان دوري أولاً!”

لكن تلك الأيام لم تدم طويلًا. مع انتشار الكرات المستوردة الرخيصة، تراجعت المهنة، وندرت ورش إصلاح الكرات الجلدية. قال العم مصطفى بأسف: “السوق مليء بالكرات غير المفيدة… وهي أرخص من إصلاح كرة جلدية”.

بينما كان العم مصطفى يروي لنا الأيام التي كاد فيها العمل ينعدم، اقترب أب من باب الورشة بكرة، وتبعه طفل يقفز فرحًا. قال بابتسامة عريضة: “شكرًا لك يا عزيزي. لا يُصدق الصبي أنها الكرة نفسها. لقد كانت معجزة.” توقف العم مصطفى عن الحديث مع الشروق للحظة، ونظر إلى الطفل، ثم قال بهدوء: “فرحته هي فرحتي في الدنيا. أسعدك الله به.”

مهنة لا تورث

في تسعينيات القرن الماضي، عندما كانت المهنة في أوجها وكان العم مصطفى الأكثر خبرة، كان مشهد ورش ترميم الكرات مشهداً مألوفاً في شوارع السيدة زينب وباب الشعرية والدرب الأحمر.

يصطف الزبائن أمام كرات جلدية أصلية، ويستقبلهم العم مصطفى بابتسامة شخص يعرف قيمة مهنته: “من يملك كرة يهتم بها كما يهتم بعينيه، وإذا حدث لها مكروه يركض إليّ وكأني طبيبه”.

لكن مع مرور الوقت، تغير الوضع. لم تعد الكرة شيئًا يحتاج إلى إصلاح وصيانة، بل سلعة يجب استبدالها فورًا. مع انتشار الكرات المستوردة الرخيصة – التي لا يتجاوز سعر الواحدة منها 50 جنية مصري – انخفضت الحاجة إلى الإصلاحات. في المقابل، ارتفع سعر الكرات الجلدية الجيدة إلى ما بين 600 و1000 جنيه مصري، مما جعلها باهظة الثمن بالنسبة للكثيرين.

يقول العم مصطفى: “الزبون يطلب مني شراء كرة جديدة رخيصة، وإذا حدث لها مكروه سأشتري كرة أخرى. هل يجب عليّ إصلاحها؟!”

يشرح العم مصطفى الفرق الذي يغفل عنه الكثيرون: “الكرات الجلدية مصنوعة من عدة طبقات من الجلد المتين، مع بطانة داخلية من القماش أو المطاط. تدوم لعشر سنوات، ولن تندم على ذلك. أما الكرات الصينية، فهي مصنوعة من البلاستيك خفيف الوزن، ولا تتحمل اللعب. عندما يرغب الشباب في إطالة عمر كراتهم، يضعون كرة بلاستيكية بداخلها.”

لكن هذا ليس كل شيء: فقد أثر ارتفاع سعر الدولار على جميع أنواع الأدوات، من الخيوط المتخصصة إلى المواد اللاصقة وصولاً إلى المطاط المستورد. تضاعفت أسعار جميع هذه المنتجات، وباتت تكاليف إصلاحها تتجاوز سعر كرة صينية رخيصة.

لكن المشكلة لم تقتصر على الأسعار فحسب، بل شملت أيضًا تحولًا جذريًا في سلوكيات الناس: من الترميم إلى الاستبدال. ووفقًا لـ Statista، إحدى أكبر قواعد بيانات مؤشرات السوق والتحليلات الاقتصادية، بلغ حجم سوق السلع الرياضية المصرية أكثر من 1.5 مليار يورو (حوالي 85 مليار جنيه مصري) في عام 2024، ومن المتوقع أن يحقق نموًا سنويًا يقارب 10% حتى عام 2028.

وعلى الرغم من أن حوالي 91% من هذا السوق لا يزال يتم التعامل معه من خلال المبيعات المباشرة – وفقًا لبيانات من eCommerceDB، وهي منصة Statista المتخصصة في تحليل اتجاهات التجارة الإلكترونية – إلا أن ورش العمل الصغيرة تظل خارج هذا النطاق.

باختصار: ظلّ السوق في حالة تقلب، لكن بوصلته لم تعد تُشير إلى الورش. استمرّ الناس في الشراء، لكنّ الكرات كانت مختلفة: رخيصة، سريعة التلف، لا يمكن إصلاحها، بل استبدالها.

وبين الكرات التي ألقيت دون إصلاح، انسحبت المهنة بهدوء من المشهد، وبقي العم مصطفى – بمهاراته وأدواته – خارج المشهد.

هذا التغيير في سلوك الزبائن أجبر معظم الورش القديمة على الإغلاق. الورش التي كانت تملأ الأزقة تختفي واحدة تلو الأخرى: “كان لدينا أكثر من 40 ورشة في المنطقة… والآن أنا تقريبًا آخر ورشة متبقية”.

رغم كل التغييرات، ظلّ وفيًا لمهنته. لكنه أدرك مبكرًا أن أبناءه لم يُخلقوا ليرثوها. علّمهم وتركهم يسلكون طريقًا مختلفًا وأكثر أمانًا: “لم يكن من الصواب تركهم في وظيفة لا تُعيلهم”.

– التكريم الذي لم يتوقعه

في أحد أيام أغسطس/آب 2022، كان العم مصطفى جالسًا على كرسيه الخشبي المعتاد، ممسكًا بكرة ممزقة بين يديه، يُحرك دبوسًا بخفة حركته المعتادة، عندما فوجئ بسيارة فارهة تتوقف أمام الزقاق. لم يُعرها اهتمامًا في البداية حتى ترجّل منها رجل أنيق يرتدي جلبابًا نظيفًا، واتجه مباشرةً نحو الكراج. قال العم مصطفى بابتسامة لم تفارق وجهه: “دخل رجل من الخليج… ونظر حوله وكأنه لا يُصدق أن هذا هو الكراج الذي رآه على هاتفه”.

لم يكن الزائر سائحًا عابرًا، بل وصل من الإمارات بعد أن شاهد مقطع فيديو قصيرًا على تيك توك للعم مصطفى وهو يُصلح كرة. أثار المشهد إعجابه، فقرر أن يشاهده بنفسه. “قال لي: رأيتك على الإنترنت وجئت خصيصًا لك”. التقط صورًا معه وقدم له هدية صغيرة.

لم تكن الكلمات وحدها هي التي أثّرت في العم مصطفى، بل المفاجأة نفسها: أن شخصًا ما من خلف الشاشة قد قطع الرحلة بأكملها لمجرد رؤيته. يقول ضاحكًا: “لا أعرف تيك توك ولم أشاهد فيديو قط، لكنني أعلم أن الله يرزق الناس من حيث لا يتوقعون. لم تُغيّر هذه الزيارة حياتي، لكنها طمأنتني. جعلتني أشعر أنني ما زلتُ مفيدًا، وأن هناك من يُقدّر جهودي.”

في المساء، عندما انتهى العم مصطفى من خياطة الكرة الأخيرة، طوى أدواته بهدوء، وأطفأ المصباح الوحيد المعلق في السقف، وفتح الباب المعدني للورشة ببطء.

الزقاق الآن فارغ، ورائحة الجلد تفوح في الهواء. الرجل لا يحمل مالًا كثيرًا إلى منزله، لكنه يحمل شيئًا أثمن. يشعر أن لحرفته معنى: “قال لي كثيرون: كفى من هذه السنين وارحل! لكن عندما أرى طفلًا بكرة مثقوبة وأتمنى أن أصلحها، أقول: ما زلت بحاجة إليها”.


شارك