من مدافع آية الله إلى صواريخ طهران.. كيف وصلت إيران إلى هنا؟

منذ 6 ساعات
من مدافع آية الله إلى صواريخ طهران.. كيف وصلت إيران إلى هنا؟

في الأيام الأخيرة، تصاعدت التوترات في الشرق الأوسط إلى مستوى جديد، ربما غير مسبوق. وقعت غارات جوية بين إسرائيل وإيران، وجرى تبادل رسائل، صريحة ومشفرة، تُشير إلى أن الحرب المباشرة لم تعد احتمالًا بعيدًا.

الصواريخ تضرب هنا، والطائرات بدون طيار تنفجر هناك، والحديث عن الخطوط الحمراء أصبح بلا معنى تقريبا منذ أن أصبح كل شيء قابلا للقصف: القواعد العسكرية، والمنشآت النووية، وحتى المدن الكبرى من طهران إلى تل أبيب.

في ظل التوترات الحالية، يُطرح سؤال قديم: من أين تنبع قدرة إيران على تشكيل تهديد عسكري لإسرائيل؟ تبدأ الإجابة بالثورة الإسلامية عام ١٩٧٩، حين تحولت إيران من شريك غربي إلى عدو إقليمي مُشكِل. وهكذا بدأت دورة من النفوذ والصراع لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.

وفي كتابه “بنادق آية الله”، يقدم الكاتب المتميز محمد حسنين هيكل وصفاً مفصلاً لبدايات هذا التحول: كيف استولى روح الله الخميني على السلطة من قم للإطاحة بالشاه، وكيف تحولت الثورة من شعار إلى نظام، وكيف زرعت بذور المواجهة الدائمة مع واشنطن وتل أبيب.

في صفحات هذا الكتاب، المكتوب في خضم الأحداث، نجد جذور المشهد الذي نشهده اليوم: إيران التي لم تتراجع رغم العقوبات والحصار، بل استطاعت بناء شبكات نفوذ مسلح وحلفاء على جبهات عدة، لتصبح لاعباً إقليمياً رئيسياً.

قراءة كتاب “مدافع آية الله” اليوم ليست مجرد إعادة سرد للتاريخ الماضي، بل هي محاولة لفهم حاضر مضطرب للغاية، تلتقي فيه صواريخ اليوم بزئير مدافع الأمس. ويبقى السؤال الأصعب: إلى أين يمكن أن تؤدي هذه المواجهة المفتوحة بين قوتين تتحدثان لغة النار؟

بين «جزيرة الاستقرار» و«وصاية المحامي»

حتى أواخر سبعينيات القرن العشرين، وُصفت إيران في الخطاب الأمريكي بأنها “جزيرة هدوء وسط بحر من الاضطرابات”. وكان الشاه محمد رضا بهلوي حليفًا موثوقًا به لواشنطن، وقوة شرطة تحمي المصالح الغربية في الخليج الغني بالنفط.

ولكن تحت السطح، كان الغضب ينمو في المساجد والأحياء الفقيرة والبلدات الريفية، بسبب القمع السياسي وأسلوب الحياة الباذخ في القصر الملكي.

وعندما اندلعت الثورة، لم تكن مجرد احتجاج ضد فساد الشاه، بل كانت مشروعاً دينياً قاده رجل دين صارم خرج من ظل قم: آية الله الخميني.

ومع انتصار الثورة، تحولت إيران من نظام ملكي إلى جمهورية إسلامية تحكمها نظرية “ولاية الفقيه”، التي تمنح رجل الدين الأعلى سلطة على الرئيس والحكومة.

“هيكل: توثيق اللحظة الحاسمة”

في كتابه “المدافع عن آية الله” الذي صدر أولاً باللغة الإنجليزية تحت عنوان “عودة آية الله” ثم باللغة العربية عن دار الشروق، يلتقط هيكل اللحظة التي غيرت مجرى الأحداث في الشرق الأوسط.

استعان هيكل بأرشيفه الواسع ومقابلاته النادرة مع شخصيات بارزة. حتى أنه التقى الخميني شخصيًا في منفاه بباريس، قبل أسابيع فقط من عودته المظفرة إلى طهران.

“السفارة الأمريكية: الشرارة التي أحرجت واشنطن”

ويفتتح هيكل كتابه بفصل درامي بعنوان «في السفارة الأميركية»، يوثق فيه اقتحام الطلاب الثوريين للسفارة واحتجاز العشرات من الموظفين كرهائن.

لم يكن الأمر مجرد احتجاز رهائن، بل كان إعلانًا رمزيًا بأن عهد “التبعية” قد ولّى إلى الأبد. منذ تلك اللحظة، بدأت أمريكا تُدرك أن حليف الأمس قد أصبح خصمًا أيديولوجيًا، مُسلحًا بعقيدة الثورة.

“تاريخ طويل من التدخلات”

قبل سنوات من الثورة، احتدم الصراع على إيران بين روسيا وبريطانيا العظمى، ولاحقًا أمريكا. يُخصّص هيكل فصولًا مهمة لكتابه “الدب والأسد”، الذي يصف فيه كيف تقاسمت موسكو ولندن نفوذهما، بالإضافة إلى كتابي “النسر المُحلّق” و”هجوم النسر”، اللذين يُوثّقان اختراق واشنطن، التي أطاحت عام ١٩٥٣ بحكومة محمد مصدق القومية من خلال “عملية أجاكس”، وأعادت الشاه إلى العرش مُطيعًا.

وكانت النتيجة أن النفوذ الأجنبي ظل متغلغلاً في كل تفاصيل الحياة الإيرانية، إلى الحد الذي جعل الإطاحة به حلماً دينياً ووطنياً.

“حاصروا قم… وافتحوا طهران”

وفي فصلي “الثورة تتراجع إلى قم” و”مدينة قم المحاصرة”، يتتبع هيكل كيف تراجعت المعارضة الدينية إلى حصنها المقدس لإعادة تنظيم صفوفها.

ومنذ ذلك الحين، صعد نجم الخميني بفتاواه وخطبه المسجلة التي عبرت الحدود سراً حتى وصلت إلى ملايين الإيرانيين.

في ذلك الوقت، كان الشاه في أوج قوته، وكان يحلم بأن يصبح “شرطي الخليج” بدعم أمريكي غير محدود. لم يكن يدرك أن الدين سيكون سلاحًا يصعب اختراقه، حتى بالدبابات.

الخميني: الزعيم الثوري بلا خطة دولة

يظل الحوار الذي سجله هيكل مع الخميني في باريس من أهم أجزاء الكتاب. يسأله بوضوح ودقة: “يا إمام، نسمع هدير مدافعك، فأين مشاتك؟ من سيحكم إيران من بعدك؟”. إجابة الخميني أقرب إلى التصوف السياسي: سيجد الشعب طريقه بنفسه.

هنا يتكشف ضعف بنية الثورة: فهزيمة نظام قديم أسهل من بناء بديل مستقر. وسرعان ما سد الحرس الثوري هذه الفجوة، الذي تطور لاحقًا إلى عملاق عسكري واقتصادي ذي قبضة قوية على السياسة والسلاح.

من الشعارات إلى الصواريخ

اللافت للنظر اليوم أن مبادئ الثورة، رغم بقائها حية، اتخذت أشكالًا جديدة. فقد أدى خطاب “الجمهورية الإسلامية” إلى ظهور برامج نووية وصواريخ بعيدة المدى وميليشيات مسلحة تدور في فلك طهران من العراق مرورًا بلبنان وصولًا إلى اليمن.

وبعبارة أخرى، أصبح “مدفع آية الله” منصة صاروخية متحركة تشن حرباً بالوكالة ضد أميركا وحلفائها في المنطقة.

لماذا تريد إسرائيل والغرب إسقاط النظام؟

وفي كتابه، يسلط هيكل الضوء على جذور هذا العداء غير المعلن: فإيران ما بعد الثورة لم تعد دولة يمكن احتواؤها أو السيطرة عليها بسهولة، بل أصبحت مصدرا دائما للمضايقة للنفوذ الغربي في المنطقة.

رغم استمرار العقوبات والضغوط، يبقى النظام طرفًا غير مرغوب فيه، لكن من الصعب إزاحته، ما يثير احتمال سقوطه مع كل تصعيد جديد. لكن السؤال الذي يغيب عن الجميع هو: هل يُمثّل سقوط النظام نهاية الصراع أم بداية مرحلة أكثر تعقيدًا؟

“الدرس المستفاد من كتاب هيكل”

إن قراءة كتاب “بنادق آية الله” اليوم لا تعد مجرد ملخص للثورة فحسب، بل هي أيضاً تذكير بأن النظام الإيراني ومعارضيه وقعوا في فخ انعدام الثقة والصراع منذ ذلك الحين.

مع كل أزمة جديدة، يصبح من الواضح أن إرث تلك الثورة لا يزال يلقي بظلاله على الحاضر، وأنه مهما تغيرت الأسلحة فإن الحسابات تظل على حالها إلى حد كبير: المخاوف الداخلية، والأعمال العدائية الخارجية، والحرب الباردة التي تشتعل كلما لاح تهديد المواجهة المباشرة.

لذا يبقى سؤال هيكل قائمًا: من يسيطر على هذه المدافع اليوم؟ ومن يتحمل ثمن هديرها؟


شارك