ما هي خطة مارشال التي حاولت إيران محاكاتها في سوريا؟

منذ 4 أيام
ما هي خطة مارشال التي حاولت إيران محاكاتها في سوريا؟

بين أكوام الوثائق الممزقة في السفارة الإيرانية بدمشق، عثرت رويترز على دراسة رسمية أجرتها وحدة السياسة الاقتصادية الإيرانية في سوريا في مايو/أيار 2022. وتكشف الدراسة عن خطة شاملة لإعادة إعمار سوريا مستوحاة صراحة من خطة مارشال الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.

وبحسب الوثيقة فإن هدف إيران كان تحويل سوريا إلى منطقة نفوذ اقتصادي واستراتيجي من خلال مشاريع تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات، مما يخلق مستوى من التبعية السياسية والثقافي والاقتصادي مماثل لما حققته الولايات المتحدة في أوروبا الغربية بعد الحرب.

ما بدأ كخطة إعادة إعمار انتهى بانهيار نظام “حليف” إيران، والانسحاب، وتراكم مليارات الدولارات من الديون والخسائر. ما هي خطة مارشال؟ كيف حاولت إيران تكرار ذلك في سوريا؟

الخطة الأمريكية الأصلية: جذور التسوية الإيرانية

صورة 1_1

في 3 أبريل/نيسان 1948، وقع الرئيس الأميركي هاري ترومان على قانون التعاون الاقتصادي المعروف باسم خطة مارشال، نسبة إلى وزير الخارجية جورج مارشال الذي اقترحها في خطابه الشهير في جامعة هارفارد في يونيو/حزيران 1947.

في ذلك الوقت، كانت أوروبا تعاني من الدمار الكامل للبنية التحتية والصناعية والنظام المالي نتيجة للحرب العالمية الثانية. كانت المدن في حالة خراب، وكان الناس يتضورون جوعاً، وكان الانهيار الاقتصادي يهدد بدفع البلدان إلى الفوضى أو الخضوع للنفوذ السوفييتي.

كان هدف خطة مارشال هو ضخ 13.3 مليار دولار في البلاد على مدى أربع سنوات لتحفيز النمو الاقتصادي وإعادة بناء المصانع واستعادة الثقة في العملات الوطنية وربط أوروبا اقتصاديًا بالولايات المتحدة من خلال إعادة الإعمار ومواجهة النفوذ السوفييتي من خلال المساعدات الاقتصادية.

وفي مقابلة مع بي بي سي العربية، قدر الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان أن “الأموال التي ضختها الولايات المتحدة آنذاك تعادل اليوم 150 مليار دولار”، واصفاً الرقم بأنه “مرتفع جداً”.

ولم تكن الخطة تتعلق بالمساعدات المالية فحسب؛ وطالبت الدول الأوروبية بتقديم خطة موحدة لإعادة الإعمار، والعمل على تقليص الحواجز التجارية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي الشامل.

ومن خلال هذه الخطة، عززت واشنطن تحالفاتها في أوروبا الغربية وعززت نموذجها السياسي الليبرالي في مواجهة الكتلة الشرقية.

ولكن ما جعل خطة مارشال نموذجاً فريداً وناجحاً، في نظر أبو سليمان، لم يكن حجم المساعدات المالية فحسب، بل أيضاً الجدول الزمني السياسي الدقيق والبيئة المواتية للتعاون.

كانت الدول الأوروبية ديمقراطية أو في طريقها إلى الديمقراطية ومستعدة للتكامل الاقتصادي، الأمر الذي سهل على الولايات المتحدة إقامة تحالفات طويلة الأمد.

محاولة إيرانية لنسخ الخطة: من الوثائق إلى الواقع

صورة 2_2

وتظهر وثائق من السفارة الإيرانية في دمشق اطلعت عليها رويترز أن طهران تحاول اتباع النهج نفسه في سوريا.

ووصفت الدراسة الرسمية الخطة الأميركية بأنها ناجحة في خلق “تبعية اقتصادية وثقافية” للدول الأوروبية للولايات المتحدة، واعتبرتها نموذجا لممارسة “النفوذ الناعم” في مواجهة العقوبات المفروضة على إيران.

لقد حددت إيران لنفسها هدفًا واضحًا يتمثل في استخدام جزء كبير من “الفرصة البالغة 400 مليار دولار” لإعادة بناء سوريا. كلفت طهران قائد الحرس الثوري عباس أكبري بإنشاء “قيادة لتطوير العلاقات الاقتصادية مع سوريا”. وهو المسؤول عن توقيع العقود ومراقبة الاستثمارات والديون.

صورة 3_3

لكن إيران، كما يوضح أبو سليمان، سقطت في مناخ من الانهيار السياسي والأمني والفوضى الإدارية والانقسامات الطائفية العميقة، مما جعل تنفيذ خطة التنمية على غرار مشروع مارشال مستحيلاً. ويضيف: “في هذه البيئة الاستثمارية غير الجذابة، لا يمكن التسامح مع خطة اقتصادية تعتمد على المزايا السياسية”.

وأجرت رويترز مقابلات مع عدد من رجال الأعمال الإيرانيين والسوريين، وفحصت شبكة الشركات الإيرانية العاملة في المنطقة الرمادية للعقوبات، وزارت بعض الاستثمارات الإيرانية المهجورة في سوريا، بما في ذلك المواقع الدينية والمصانع والمنشآت العسكرية.

وبحسب وكالة رويترز، واجهت هذه الاستثمارات العديد من العقبات، أبرزها الهجمات المسلحة، والفساد المحلي، والعقوبات الغربية، والغارات الجوية.

وتشمل هذه الاستثمارات مشروع محطة توليد الكهرباء بقيمة 411 مليون يورو في مدينة اللاذقية الساحلية، والذي تنفذه شركة هندسية إيرانية، لكنه متوقف حاليا.

كما تم التخلي عن مشروع إنتاج النفط في البادية السورية الشرقية.

كما انهار جسر للسكك الحديدية فوق نهر الفرات، بلغت تكلفته 26 مليون دولار، والذي بنته مؤسسة خيرية مرتبطة بالمرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، قبل عام بعد غارة جوية شنتها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة، ولم يتم إصلاحه أو تعويضه بالكامل.

ويرى أبو سليمان أن إيران، على عكس الولايات المتحدة، لم تكن لديها الموارد المالية لتمويل مثل هذه المشاريع. ويضيف: “لقد عانى اقتصاد البلاد من العقوبات العديدة وانهيار العملة والاعتماد على الموارد المحدودة، مما جعل تمويل خطة سوريا غير مستدام”.

وشملت المشاريع التي مولتها إيران الإسكان والنقل والاتصالات وتعدين الفوسفات، فضلاً عن الدعم المستمر لمزار ديني في السيدة زينب والتحويلات النقدية للأسر الإيرانية المقيمة في المنطقة.

وبحسب وثيقة اطلعت عليها رويترز، قامت إيران أيضاً بتمويل سوريا بخطي ائتمان بقيمة 3.6 مليار دولار ومليار دولار أخرى في عامي 2013 و2015 على التوالي، وذلك بموجب اتفاقيات وقعت بين البلدين.

في عام 2015، قالت المتحدثة باسم المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، لوكالة بلومبرج أن المبعوث يقدر أن إيران تنفق حوالي 6 مليارات دولار سنويا لدعم حكومة بشار الأسد.

ولكن مع تقدم المشروع، واجهت إيران العديد من المشاكل.

وتأخرت المدفوعات من الشركات الإيرانية، وتم تغيير العقود من جانب واحد، واحتكرت شبكات محلية مرتبطة بعائلة الأسد العقود، وعانت المشاريع من تأخيرات مزمنة.

واشتكت شركة “مبنى” الإيرانية التي نفذت مشروع اللاذقية في عدة رسائل رسمية من إجبارها على تمويل المشروع بالكامل في انتهاك للعقد.

ونتيجة للحرب وتقلبات العملة، خسرت شركة “كوبر وورلد” أيضًا شحنات كبيرة، وتقدمت بشكوى إلى البنك المركزي السوري.

وكشفت الوثائق أيضاً عن رغبة إيران في إنشاء منظمة شبيهة بالوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وهي قوة ناعمة من شأنها إدارة مشاريع إعادة الإعمار، وتحييد العقوبات الغربية، والمساهمة فيما وصفته دراسة إيران بـ”تحقيق الأمن الإقليمي”.

وتمثل المشاريع التي يبلغ عددها نحو 40 مشروعاً، والتي عُثر على تفاصيلها في وثائق السفارة الإيرانية المهجورة في دمشق، جزءاً صغيراً فقط من إجمالي الاستثمارات الإيرانية في سوريا.

ولكن في هذا القسم وحده، وجدت رويترز أن الديون السورية غير المدفوعة للشركات الإيرانية بلغت 178 مليون دولار على الأقل بحلول نهاية الحرب. قدر نواب إيرانيون سابقون أن إجمالي ديون حكومة بشار الأسد لإيران تجاوزت 30 مليار دولار.

لقد فشل المشروع بعد سقوط النظام السوري.

صورة 4_4

ومع سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 واستيلاء فصيل معارض على السلطة، انسحبت القوات المسلحة والشركات الإيرانية، مما أدى إلى تعليق المشاريع وعدم سداد الديون.

قام مواطنون بنهب السفارة الإيرانية وعثروا على وثائق تفصل ديون الحكومة السورية البالغة 178 مليون دولار لشركات إيرانية.

ورغم تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية التي دعا فيها الحكومة الجديدة إلى الالتزام بالاتفاقيات، فإن الحكومة لم تظهر حتى الآن أي التزام بذلك، وعاد المستثمرون الإيرانيون إلى بلادهم بخسائر كبيرة.

ويشير أبو سليمان إلى أن هذه الاستثمارات تمثل عبئاً مالياً على إيران دون أي عائد، بسبب عدم وجود ضمانات سيادية أو دولية. ويرى أن الأحداث تؤكد أن “النفوذ لا يمكن شراؤه بالديون، وأن المشاريع لا يمكن إدارتها بتصورات غير مدروسة”.

وتم استبدال خطط إدارة إيران لميناء اللاذقية في وقت لاحق بتمديد العقد مع شركة فرنسية.

وفي الاجتماعات الداخلية لفريق أكبري، تم تقديم توصيات لفهم “المافيات الاقتصادية” في سوريا وتحديد “المصالح المحلية” لتسهيل التنفيذ. وهذا يعكس فهماً معقداً للواقع السوري.

ورغم أن إيران استمرت في توقيع اتفاقيات جديدة في عامي 2023 و2024، بما في ذلك إنشاء بنك مشترك، وإلغاء التعريفات الجمركية، وتسهيل المعاملات بالعملات المحلية، فإن التحول في ميزان القوى في المنطقة ــ بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية والانسحاب الإيراني ــ أنهى هذه العملية بحكم الأمر الواقع.

ومن بين المتضررين التاجر الإيراني حسن شخشي، الذي خسر قطع غيار سيارات بقيمة 16 مليون يورو تم شحنها إلى ميناء اللاذقية قبل هروب الأسد. وقال الشخسي للوكالة: “لقد أنشأت مكتباً ومنزلاً في سوريا، لكن كل ذلك اختفى”.

وأضاف: “لم أتلقَّ أيَّ مبلغٍ مقابل البضائع المفقودة. آمل ألا يُمحى تاريخ إيران الطويل مع سوريا بسهولة. الآن، أجد نفسي مضطرًّا للبحث عن عملٍ آخر”.

هل تعمل سياسات الاستيراد؟

وفي نهاية المطاف، انتهت آمال إيران في محاكاة خطة مارشال وبناء إمبراطورية اقتصادية تشمل سوريا بمصير أقرب إلى فشل الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.

وقد أدى التدخل المبكر لطهران في الحرب الأهلية السورية إلى تعزيز نفوذها على هذا الممر الحيوي إلى البحر الأبيض المتوسط. ولكن قصة الاستثمارات الضائعة تظهر مدى المخاطر المالية التي ينطوي عليها هذا الطريق، وكيف أدى الترابط بين حكومتين “منبوذتين” دولياً ــ في دمشق وطهران ــ إلى الإضرار بكل منهما.

ما حاولت إيران تحقيقه في سوريا بنموذج مستوحى من خطة مارشال الأميركية انتهى بشكل مختلف.

وفي حين أن هذه الخطة مكنت واشنطن من بناء تحالفات مستقرة في أوروبا، فإن التجربة الإيرانية في سوريا فشلت في إنتاج نتائج اقتصادية ملموسة، وواجهت بيئة سياسية وأمنية غير مستقرة ومصالح محلية ودولية متضاربة.

وبحسب تحليل أبو سليمان، فإن خطة مارشال نجحت لأنها صممت لتناسب البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للسياق الأوروبي في ذلك الوقت، في حين كانت إيران تحاول تنفيذ نموذج اقتصادي غير مستدام في بيئة غير مهيأة. وأشار إلى أن استنساخ النماذج السياسية أو الاقتصادية دون فهم خصوصيات السياق المحلي يؤدي في كثير من الأحيان إلى الفشل.


شارك