مفتي الجمهورية: الأديان لم تكن يوما سببا للفرقة بل قوة للوحدة الإنسانية

أكد الدكتور نذير محمد عياد، مفتي الديار المصرية ورئيس الأمانة العامة لهيئات ومؤسسات الإفتاء في العالم، أن الفكر الديني في تناوله لقضايا التنمية ينطلق من مبدأ سامٍ ورسالة إلهية، تتجلى بوضوح في قوله تعالى: {وخلقكم من الأرض واستعمركم فيها}. والأمر بعمارة الأرض والنهي عن الفساد جزء من الرسالة الإلهية التي أبلغها الأنبياء إلى شعوبهم.
وأشار إلى قول سيدنا صالح (عليه السلام) لقومه: “فاذكروا نعمت الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين”. وقال سيدنا شعيب (عليه السلام) لقومه: “ولا تبخسوا الناس حقوقهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين”. وخاطب نبي الله موسى (عليه السلام) قومه: “كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين”. بل قال الله لجميع خلقه: “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها”، وأضاف: “أي بعد أن أصلحها الله لنا قسطًا وعدلًا. وتوضح الآيات الكريمة أن الأنبياء (عليهم السلام) نهوا قومهم عن جميع أنواع الفساد في البر والبحر والجو، ولم ينهوهم عن إفساد الدين فحسب”.
جاء ذلك خلال كلمته في جلسة “الأديان كعامل لتحقيق التنمية المستدامة في العالم” في اليوم الثاني من القمة العالمية الثامنة لزعماء الديانات العالمية والتقليدية، المنعقدة في العاصمة الكازاخستانية أستانا.
أوضح المفتي أن الحضارة الإسلامية أثبتت عبر القرون أن التنمية الحقيقية تقوم على التقاء المعرفة والعلم والقيم الدينية والأخلاقية. وازدهرت مدن كبرى كسمرقند وبخارى وبغداد ودمشق والقاهرة، مزجت الاقتصاد بالثقافة، والروح بالمعرفة. وساهمت هذه الحضارات في بناء تراث إنساني مشترك يُثري ضمير البشرية. وأضاف أن أي تقدم مادي أو علمي لا يرتكز على المعايير الأخلاقية والروحية، يصبح حتمًا أداة تدمير وإفساد. أما التنمية القائمة على القيم، فتضع الإنسان في صميم عملية التنمية، وتحقق الخير لجميع الأجيال.
وأكد أن قيم التعايش والحوار أساس تطور المجتمعات واستدامة السلام، مستشهدًا بالآية القرآنية الكريمة: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾. وأوضح أن القرآن الكريم لا يعتبر الاختلافات بين الشعوب والثقافات سببًا للصراع، بل يراها فرصة للتعاون والوئام، وأن الحوار ليس خيارًا تكامليًا، بل ضرورة حيوية في عالم متزايد الترابط. وأوضح أيضًا أن الحضارات الإنسانية لم تنشأ إلا من خلال القدرة على الحوار وتبادل المعرفة، حيث انتقلت الأفكار واللغات والفنون والأديان، وازدهرت مراكز حضارية عظيمة، وحدت الروح والثقافة والعمران، مما أسهم في تكوين إرث إنساني مشترك.
أوضح سماحة المفتي أن العيش المشترك يتطلب الاحترام المتبادل والتفاعل الإيجابي، مستشهدًا بالآية الكريمة: ﴿لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين﴾. لذا، فإن الحوار مع الآخرين ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة حيوية لضمان التنمية المستدامة وحماية المجتمعات من الصراعات والفتنة.
وأوضح أن الثورة الرقمية والتطورات في مجال الذكاء الاصطناعي تفرضان مسؤولية مزدوجة على المؤسسات الدينية: إذ يجب عليها أن تنخرط في خطاب عقلاني يواكب الواقع الجديد، بوعي وبصيرة. فعندما ينفصل الذكاء الاصطناعي عن الضمير، يصبح أداة صراع بدلًا من أن يكون وسيلة سلام. كما أكد على أن أي تقدم علمي وتكنولوجي يجب أن يظل مرتبطًا بالقيم الإنسانية والروحية التي تصون حقوق الإنسان وكرامته.
دعا إلى إخضاع التكنولوجيا لمنظومة قيمية تجعل من التعاطف والعدالة والشفافية والمسؤولية والحوار شروطًا أساسية لنجاحها. فالعدالة تضمن ألا تُعيد الخوارزميات إنتاج التمييز والانقسام والعنصرية. وتتطلب الشفافية ألا تخضع التكنولوجيا لسيطرة خوارزميات غامضة تحجب الحقيقة عن الناس. وتتطلب المسؤولية محاسبة واضحة لمبتكري الذكاء الاصطناعي. فالتعاطف واحترام كرامة الإنسان هما أسمى الغايات، فلا قيمة لأي إنجاز علمي إن لم يخدم الإنسانية ويعزز كرامتها. أما الحوار، فيضمن للناس العيش في أمن وسلام، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية والدينية.
تناول حال العالم وما يعانيه من غطرسة أصحاب السلطة واستخدام السلاح، ووحشية الظالمين، وتواطؤ الطغاة. يؤكد هذا الحدث، إن كان يؤكد شيئًا، أن العالم اليوم بأمسّ الحاجة إلى صوت الحكمة والعقل، ذلك الصوت الذي يستعيد من خلاله رشده ويستقر على خطاه. أعتقد أنكم ستوافقونني الرأي على أن هذا الصوت ينبع من قيم الدين وتعاليم السماء، فهذه القيم تتسم بالموضوعية، لأنها تنبع من خالق عليم بكل شيء، عالم بكل شيء: “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْعَلِيمُ؟”. علاوة على ذلك، تنأى هذه التعاليم الدينية بنفسها عن النفاق السياسي الذي يتجاهل حقوق المظلومين، ويطالب بحقوق الظالمين، ويبرر أفعال المغتصبين، ويحرم الضحية من حق الدفاع والتعويض المستحق. لذلك أرى أن الحاجة إلى صوت السماء أمر لا مفر منه ولا بديل عنه.
واختتم كلمته مؤكدًا أن الأديان لم تكن يومًا سببًا للفرقة، بل كانت قوةً للوحدة العالمية بين البشر، متحدين في قيم العدل والرحمة والحقيقة. وأضاف أن الدور الأساسي للمؤسسات الدينية هو أن تُظهر للعالم أن الحوار ليس ترفًا فكريًا، بل هو شرطٌ أساسي للبقاء وأساسٌ لتحقيق السلام العالمي. كما أن تعزيز قيم الحوار والتفاهم يُساعدنا على تصحيح صورتنا عن الأديان في وقتٍ تسعى فيه جهاتٌ خبيثةٌ إلى تشويهها وتحميلها مسؤولية ما لا علاقة لها بها. إن التحديات التي تواجه تعزيز قيم الحوار والتفاهم هائلة، بدءًا من التطرف والتعصب، مرورًا بإساءة استخدام التكنولوجيا والتفرقة بين الأجيال، وصولًا إلى محاولات إعادة بناء المجتمعات على أسس مادية بحتة، خالية من الروابط الروحية والإنسانية.
وأضاف: “لذا، فإن دورنا حاسم، ومسؤوليتنا في مواجهة هذه التحديات الخطيرة هائلة وهائلة. وهذا يتطلب منا التعاون والتكامل”.