خلف أبواب دور رعاية المسنين.. حكايات وأحلام

نادية: أريد أن أستعيد توازني. فتيحة: أنادي أولادي، لكن لا أحد يُجيب. • سعاد: أمنيتي الأخيرة أن أحج.. وأن يتزوج الحاج عطاالله في البيت. • ممثل عن جمعية التضامن: اللائحة التنفيذية لقانون حقوق كبار السن معروضة على مجلس الوزراء للموافقة عليها. نسعى لزيادة عدد المساكن الجديدة. • مدير دار الصحابة رضي الله عنهم: رعاية المسنين تعتمد بشكل عاجل على دعم المتبرعين.
أصبحت دور رعاية المسنين في مصر ملاذًا آمنًا لمختلف فئات كبار السن. وتتراوح خدماتها بين مرافق منخفضة التكلفة ومجانية للحالات البسيطة، وفنادق تقدم خدمات فاخرة ورعاية شاملة.
وعلى الرغم من اختلاف أنواع ومرافق كل دار، إلا أن الهدف يبقى واحدا: توفير الأمن والرعاية والراحة لهذه المجموعة من الأشخاص الذين قضوا حياتهم في خدمة المجتمع.
خلال جولةٍ على عددٍ من دور رعاية المسنين، التقت الشروق بنزلاءٍ لكلٍّ منهم قصةٌ مختلفة وظروفٌ مختلفة. اختار بعضهم العيش في الدار بحثًا عن الرفاهية والأنشطة الاجتماعية، بينما اضطر آخرون للبقاء داخلها بعد أن أساء أطفالهم معاملتهم وتوقفوا عن السؤال عنهم أو رعايتهم. وبين هذه القصص، قصصٌ كثيرة تعكس واقعًا إنسانيًا متنوعًا يستحق التأمل.
• نادية: أطلب من الرئيس السيسي أن يساعدني في العلاج.
في دار رعاية الصحابة بالجيزة، جلست نادية شعبان، وهي امرأة ستينية. كان وجهها يحمل آثار تعب السنين، لكنها قاومت وحدتها بابتسامة.
تروي نادية قصتها وتقول: “ليس لدي أطفال. تزوجت مرة واحدة قبل 30 عامًا، ثم انفصلنا. مات جميع إخوتي، ولم يبقَ لي أحد”.
بدأت رحلة نادية إلى دار السلام بعد إقامة طويلة في المستشفى، حيث راوحت بين الحياة والموت قرابة أربعة عشر شهرًا بسبب انسداد رئوي. في كل مرة اضطرت فيها لمغادرة المستشفى، لم يكن لديها مأوى ولا منزل تعود إليه.
وأضافت بصوت حزين: “كنت أسكن في غرفة صغيرة بحي بولاق الدكرور، وأدفع إيجارًا قدره 250 جنيهًا مصريًا. وعندما مرضت ولم أعد قادرة على دفع الإيجار، استولت صاحبة المنزل على الغرفة ومحتوياتها، وتركتني بلا مأوى وبلا معيل”.
وتابعت: “ابن أختي هو الوحيد الذي يزورني من حين لآخر. يأتي كل عشرين يومًا. يساعدني موظفو الدار في الأكل والشرب، وحتى استخدام دورة المياه، لأنني لا أستطيع القيام بذلك بمفردي”. تأمل أن تستعيد عافيتها لتتمكن من الاعتناء بنفسها دون أن تُثقل كاهل أحد.
تقضي نادية وقتها أمام التلفاز وتقول: “أحب مشاهدة المسلسلات والأفلام القديمة. فهي تطرد وحدتي”.
رفعت بصرها نحو السماء، واختتمت حديثها قائلةً: “لو التقيتُ بالرئيس عبد الفتاح السيسي يومًا ما، سأطلب منه ببساطة أن تُغطي الدولة تكاليف علاجي الطبيعي، فهو مُكلف للغاية. لا أريد شيئًا في هذه الدنيا سوى الاعتناء بنفسي والذهاب إلى الحمام بمفردي دون أن أكون عبئًا على أحد”.
• الحاجة فتيحة، ثمانينية،… تنادي فلا أحد يجيبها
الحاجة فتيحة، امرأة ثمانينية، جلست هناك، منهكة من المرض ومكتئبة من العمر. كانت عيناها تذرف الدموع باستمرار، ولم يفارق اسم ابنها الأكبر ذهنها. كانت تناديه باستمرار: “طارق… طارق”. لكن لا أحد يُجيبها.
تروي فتحية قصتها بصوت خافت: “كنت أعيش في الإسكندرية مع زوجي وابنيّ، ولكن بعد الطلاق، تركتهما مع والدهما، ونشأا بعيدًا عني. اليوم أبلغ من العمر 80 عامًا وأعاني من السرطان، ولم يعد أي منهما معي”.
في كل زيارة نادرة، كان الابن الأكبر يظهر لبضع دقائق ثم ينصرف بسرعة، بينما تكرر أمه مرارًا وتكرارًا: “أنا أمك. ممنوع عصيان والديك. لا أريد سوى نظرة حب”.
بينما جلست الحاجة فتيحة على كرسيها، قالت: “لا أريد مالًا. أريد فقط أن أشعر بأنني أم، وأريد أن يراني أطفالي قبل أن أغادر هذا العالم”.
• الحاجة سعاد: أمنيتي الأخيرة هي أداء فريضة الحج.
على بُعد خطوات من الحاجة فتحية، جلست الحاجة سعاد عبد الرؤوف، سيدة سبعينية بملامح بسيطة وابتسامة دائمة. تحدثت سعاد عن حياتها: “لديّ ابن وابنتان. وضعني ابني في دار رعاية عندما كبرت وتدهورت صحتي. يسكن في نفس المنطقة، بينما إحدى ابنتاي متزوجة في محافظة أخرى، والأخرى تسكن بعيدًا. لذلك لا أراهما كثيرًا. يزورانني من حين لآخر، ربما مرة شهريًا تقريبًا.”
وعن أمنيتها، تقول الحاجة سعاد بعينين تلمعان: “لو كان الرئيس السيسي أمامي الآن، لما طلبتُ مالًا ولا علاجًا. كل ما أتمناه هو أن يرزقني الله زيارة بيته الحرام، وأن يُتيح لي فرصة الحج في الوقت المناسب”.
• الحاجة ليلى.. قلب الأم ينتظر لقاء أبنائها
في السرير المقابل لها تجلس الحاجة ليلى مصطفى، سيدة سبعينية، بابتسامة هادئة على وجهها، خلفها شوق عميق لأطفالها الخمسة: ثلاث بنات وولدين.
الحاجة ليلى تروي قصتها: “أحضرني ابني إلى هنا منذ أكثر من ثلاث سنوات. بسبب عمله والتزاماته العائلية، لم يتمكن من توفير الرعاية الطبية لي، فأحضرني إلى الدار”.
لكن أطفالها نادرًا ما يزورونني: “يأتون لرؤيتي أحيانًا، لكنهم غالبًا ما يغيبون. يأتي كل واحد منهم بعد فترة طويلة من الوحدة. أحيانًا أراهم مرة واحدة شهريًا فقط، ويكتفي بعضهم بمكالمة هاتفية عابرة”.
وعن أمنيتها، تقول: “أسأل الله أن أزور بيته الحرام وأؤدي فريضة الحج قبل مماتي. هذا أعظم أحلامي، وأريد أن أرى الكعبة وأدعو لجميع أبنائي”.
• مدير دار الصحابة رضي الله عنهم: نعتمد على التبرعات ونطلب الدعم في تقديم الرعاية الأساسية لكبار السن.
قالت رشا محمود، مديرة دار رعاية صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن الدار ترعى حاليًا 13 مُسنًّا، وتديرها جمعية صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأشارت إلى أن تمويلها يعتمد في معظمه على دعم الأهالي والمجتمع المحيط.
وأضافت رشا أن مؤسسة دار الهنا تقوم أيضا في بعض الأحيان بتغطية جزء من احتياجات الدار الطبية والتموينية، فيما تقوم وزارة التضامن الاجتماعي بتأثيث الدار وتجديدها، حيث أن الأثاث ملك للوزارة.
أوضحت مديرة الدار أن التحدي الأكبر الذي تواجهه الدار هو الارتفاع الحاد في أسعار منتجات العناية، وخاصةً الحفاضات، التي يحتاجها معظم كبار السن باستمرار. وناشدت تقديم الدعم أو التبرعات لتوفير هذه المواد الضرورية.
وأشارت رشا إلى أن الوزارة تراقب بشكل دوري نظافة وجودة الأطعمة المقدمة للنزلاء، وأكدت أن الدار لم تعد تقبل بعض السيدات اللاتي لديهن أطفال ويحصلن على معاشات بسبب عدم قيام أطفالهن برعايتهم.
وأوضحت مديرة دار الأيتام أن بنك الطعام كان يزود الدار سابقًا بحصص غذائية كاللحوم والبروتين والأرز والمعكرونة. إلا أن هذه المساعدة تحولت لاحقًا إلى مواد غذائية أصغر كالجبن والعسل الأبيض والأسود والحليب المجفف. وأشارت إلى أن بنك الطعام قد أشار رسميًا إلى أن التبرعات التي تلقاها كانت من هذا النوع.
فيما يتعلق بالموظفين، أكد مدير الدار أن رواتبهم متدنية لعدم وجود دخل ثابت أو ضمان اجتماعي. أحيانًا يتبرع أبناء كبار السن بمبالغ بسيطة لتغطية تكاليف تشغيل الدار.
• الحاج عطاالله: لم أختر الوحدة، بل اخترت حياةً كريمةً.
في دار الهنا لرعاية المسنين، يجلس الحاج عطا الله علي محمد، رجلٌ سبعينيٌّ ذو وجهٍ مُشرقٍ وروحٍ مُفعمةٍ بالحيوية. يرفض اعتبار نفسه “عجوزًا”، ويُصرّ على أن يعيش حياته كما يُريد.
يروي الحاج عطا الله قصته: “عملتُ في قطاع النفط لسنوات طويلة. بعد تقاعدي، أصبحتُ وحيدًا. انفصلتُ عن زوجتي وعشتُ وحدي. وجدتُ الوحدة أسوأ من أي مرض. كنتُ أبحث عن مكان يوفر لي الرعاية والحياة الكريمة، فقررتُ العيش هنا”.
ويضيف مبتسمًا: “أبنائي متزوجون، ولديّ أحفاد. يزورونني باستمرار. أراهم في النادي، حيث أقضي أيامي أمارس الرياضة وأنشطة أخرى. لم يعترضوا على وجودي في المنزل. بل على العكس، رحّبوا بي لأنهم يعلمون أنني أشعر براحة وأمان أكبر هنا”.
ولم يكتف الحاج عطاالله بالعيش في البيت فقط، بل تزوج فيه أيضاً، ويصف قراره بـ”غير التقليدي ولكنه الصواب”.
وتابع الحاج عطاالله: “الرعاية في الدار جيدة جداً، ولكن نأمل أن يتم ضبط ارتفاع الأسعار والإيجارات حتى يتمكن حتى أصحاب الدخل المتوسط من العيش بكرامة، خاصة وأن كبار السن لا يريدون الكثير وإنما الاستقرار فقط”.
• «دار الهنا» لرعاية المسنين: تغيرت النظرة الاجتماعية لدور رعاية المسنين بشكل كبير.
قال محسن أنور، مدير دار الهنا لرعاية المسنين، إن نظرة المجتمع لدور رعاية المسنين قد تغيرت تدريجيًا. فقد كانت تُعتبر رمزًا للإهمال و”مكانًا يُهمَل فيه كبار السن”. وبفضل حملات التوعية والمشاركة المدنية، أصبحت دور رعاية المسنين الآن أكثر ارتباطًا بمفهوم الرعاية والدعم. ودعا إلى تضافر جهود الوزارات الحكومية، مثل وزارة الرياضة، التي تُخصص أيامًا لكبار السن في الأندية الرياضية.
ومن القصص المؤثرة أيضًا قصة رجل مُسنّ أوكل، قبيل وفاته، لأبنائه رعاية ممرضة كانت تربطه بها صلة قرابة وثيقة. وتعبيرًا عن ولائهم لوصيته، تعهّد أبناؤه بتأمين شقته في دار الرعاية بعد وفاته. كما تكفل المتبرعون بتكاليف جنازة الممرضة التي لم يكن لها أقارب.
وأشار محسن إلى أن العلاقة مع أبناء السجناء قد تكون معقدة في بعض الأحيان، حيث أن بعضهم يكون مشغولاً جداً ولا يستطيع زيارة عائلاتهم لفترات طويلة، الأمر الذي يؤثر سلباً على نفسية كبار السن.
وأوضح أن إدارة الدار تتواصل مع النزلاء لتذكيرهم بأهمية الزيارات، مؤكداً أن لقاءً لمدة ساعة كفيل بإحداث فرق نفسي ومعنوي كبير.
• رئيس قسم رعاية المسنين في جمعية التضامن: هدفنا التوسع في إنشاء دور جديدة.
أوضح محمود شعبان، مدير عام الإدارة العامة لرعاية المسنين بوزارة التضامن الاجتماعي، أن المهمة الأساسية للإدارة هي وضع استراتيجيات وخطط لكبار السن، استنادًا إلى الأطر القانونية واللوائح المنظمة لعملهم. وأشار إلى أن الوزارة تهدف إلى إيجاد مفهوم رعاية شامل يوفر الأمان الاجتماعي لهذه الفئة من خلال حزمة متكاملة من المزايا.
وفي تصريحات لـ”الشروق”، كشف شعبان أن الوزارة تقدم خدمات صحية واجتماعية ونفسية في دور رعاية المسنين، كما تنفذ برامج على مستوى الجمهورية لتعزيز تقرير المصير والتكامل المجتمعي من خلال المبادرات واللقاءات.
وأضاف أن الوزارة تنظم أنشطة ورحلات ثقافية وترفيهية تساهم في دمجهم في المجتمع، مؤكداً أن الوزارة تولي اهتماماً خاصاً لكبار السن الذين يفتقرون إلى الدعم الأسري.
أشار مدير عام الإدارة العامة لرعاية المسنين إلى وجود نحو 176 دار رعاية على مستوى الدولة، مؤكدًا أن الوزارة تسعى إلى التوسع في إنشاء دور جديدة وتطوير الأنشطة والخدمات لتمكين كبار السن من عيش حياة كريمة.
وأكد أن الوزارة تعمل على تشجيع منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص للمساهمة في تطوير الخدمات وإنشاء دور الرعاية تطبيقاً لأحكام قانون حقوق كبار السن.
وفيما يتعلق باللائحة التنفيذية لقانون حقوق كبار السن، أفاد شعبان بأن وزارة التضامن انتهت من صياغة المقترح ورفعته إلى مجلس الوزراء، وأنه قيد المناقشة حاليًا مع المجلس الاستشاري لمجلس الوزراء. وأكد أن القانون يُعد خطوة مهمة نحو ضمان حقوق كبار السن وتعزيز حمايتهم.
وأوضح أن كبار السن المستحقين يحصلون على مساعدة من الوزارة وفقاً للشروط المنصوص عليها في قانون الضمان الاجتماعي، مستشهداً ببرامج المساعدات النقدية مثل “كرامة” وشهادة رد الجميل من بنك ناصر الاجتماعي، فضلاً عن إعفاءات بنسبة 50% من أجرة المواصلات العامة لمن تجاوزوا 65 عاماً، و100% لمن تجاوزوا 70 عاماً.
أكد شعبان التزام الوزارة بتدريب وتطوير العاملين في دور رعاية المسنين من خلال برامج خاصة لرفع كفاءتهم وتحسين مستوى الخدمة. وأوضح أن من أبرز التحديات استمرار النظرة التقليدية لكبار السن كعبء لا مصدر خبرة وقيمة. ويتفاقم هذا الوضع بسبب قلة وعي الجمهور بحقوقهم، رغم كل الجهود المبذولة لتغيير هذه النظرة.
وأضاف أن الوزارة تقدم الدعم الفني والمالي للعاملين في دور الرعاية، وتسعى باستمرار لتطوير مهاراتهم المهنية. كما تقدم رعاية مجانية أو شبه مجانية لكبار السن غير القادرين على رعاية أنفسهم أو الذين يفتقرون إلى الدعم الأسري.
واختتم شعبان حديثه بالتأكيد على أن الوزارة تتابع أداء دور الرعاية بانتظام من خلال مديريات التضامن بالمحافظات، والزيارات الميدانية، وفريق التدخل السريع. وهذا يضمن رصد أي مخالفات واتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية اللازمة فورًا. وفي الوقت نفسه، تم رصد بعض الملاحظات البسيطة، واتخاذ الإجراءات اللازمة فورًا ورصدها باستمرار لمنع تكرارها.