اللقاءات المصرية – الخليجية مؤخراً: غزة في الواجهة وتقاطع السياسة والاقتصاد

في النصف الثاني من أغسطس/آب 2025، عُقدت سلسلة من المحادثات الدبلوماسية المكثفة بين مصر وعدة دول خليجية، اتسمت بتوترات إقليمية كبيرة وتعقيدات سياسية. ورغم أن غزة كانت على رأس جدول الأعمال، إلا أن طبيعة الاجتماعات وتواترها، بالإضافة إلى سياقها الجغرافي والسياسي، تشير إلى حوار أوسع تتقاطع فيه المخاوف الأمنية مع القضايا الاقتصادية، وتتقاطع فيه المواقف السياسية مع المصالح طويلة الأمد.
وبدأت الحركة في العلمين، حيث التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع كبار المسؤولين البحرينيين في 18 أغسطس/آب. وفي اليوم نفسه، التقى رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بحضور قادة أمنيين من البلدين.
بعد أيام، سافر السيسي إلى مدينة نيوم السعودية، حيث استقبله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان شخصيًا، في مشهدٍ لافتٍ يُنظر إليه كدليلٍ على عمق العلاقات بين الجانبين. في 25 أغسطس، التقى الرئيس المصري نظيره الإماراتي، محمد بن زايد، في العلمين أيضًا، بينما عاد الوزير القطري إلى المدينة بعد أيامٍ قليلة للمشاركة في الاجتماعات المشتركة للمفوضية السامية مع مصر. وقد أضفى هذا على الاجتماعات طابعًا دوريًا وعكس الرغبة المتبادلة في التنسيق المستمر.
غزة في مركز المشاورات
لعبت قضية غزة دورًا بارزًا في هذه الاجتماعات، في حين كان الوضع الإسرائيلي في قطاع غزة يتدهور بسرعة. أعلنت تل أبيب عن عملية عسكرية واسعة النطاق في مدينة غزة. في الوقت نفسه، كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مجددًا عن رؤيته لـ”إسرائيل الكبرى”، التي ذكر فيها أيضًا الأراضي العربية خارج فلسطين. هذا الأمر فتح الباب أمام قلق الدول العربية من النوايا الإسرائيلية.
رغم اختلاف صياغتها، أكدت جميع بيانات الاجتماعات – باستثناء بيان لقاء السيسي وبن زايد الذي لم يتناول قضايا إقليمية محددة – على ضرورة وقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة، ورفض السياسات الإسرائيلية التي قد تؤدي إلى تغييرات جيوسياسية قسرية في المنطقة. كما أكدت على ضرورة السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، لكنها ألقت باللوم على إسرائيل في فشل جهود الوساطة الإقليمية.
المنطقة تواجه تغيرات جذرية.
يرى السفير حسين هريدي، نائب وزير الخارجية المصري الأسبق، أن توقف جهود الوساطة لا يدل على نقص في التنسيق العربي، بل يفتح الباب أمام إجراءات مشتركة أشمل لمواجهة ما يسميه “العدوان الإسرائيلي”. ويؤكد أن إعلان نتنياهو عن “إسرائيل الكبرى” لا يُنظر إليه على أنه مجرد دعاية، بل إن القاهرة ودول الخليج تأخذه على محمل الجد، إذ قد يُمهد الطريق لسياسة توسعية جديدة.
يرى العميد خالد عكاشة، مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن هذه الاجتماعات مرتبطة بإعداد موقف عربي مشترك في الجمعية العامة للأمم المتحدة المقبلة. ويشير إلى أن اتساع الفجوة بين الوسطاء العرب والولايات المتحدة بشأن رؤيتهم لحل أزمة غزة يتطلب صياغة موقف إقليمي أكثر صلابة، قادر على التأثير في العمليات الدبلوماسية الدولية.
ملفات عن إيران وسوريا ولبنان
في الخلفية، تلعب قضايا أخرى دورًا لم تُذكر صراحةً في البيانات الرسمية، ولكن من المرجح أن تُناقش بين رؤساء الدول والحكومات. وتشمل هذه القضايا البرنامج النووي الإيراني، والوضع في لبنان، والاتفاقات في سوريا، بالإضافة إلى الأزمة البحرية في البحر الأحمر، حيث يلعب التهديد الحوثي دورًا متناميًا في إعادة توجيه أولويات الأمن البحري لدول مثل مصر والمملكة العربية السعودية.
يعتقد العميد خالد عكاشة أن الملفين السوري واللبناني لم يكونا حاضرين في محادثات رؤساء الدول والحكومات، إذ “مصر ودول الخليج الكبرى متورطة بعمق في الأحداث هناك”. وأشار إلى أن تطورات النزاع النووي الإيراني والتوترات العسكرية المحتملة بين طهران وتل أبيب تُعدّ أيضًا من بين القضايا المُلحّة التي تُحرّك إعادة التموضع العربي.
ويشير أيضًا إلى أن الممر المائي في البحر الأحمر لم يعد مجرد قضية تجارية، بل أصبح عنصرًا أساسيًا في الأمن القومي للدول المجاورة، وخاصة مصر والمملكة العربية السعودية. كما تتأثر الإمارات العربية المتحدة وقطر اقتصاديًا بشكل غير مباشر بهذه الاضطرابات نظرًا لاعتمادهما على طرق التجارة العالمية التي تعبر البحر الأحمر.
مواضيع مثيرة للجدل تحت السطح
رغم هذه الديناميكيات السياسية والأمنية، لم تغب القضايا الثنائية عن جدول أعمال المحادثات. وكانت علاقات مصر مع السعودية والإمارات محورية. وأشارت التقارير الصحفية إلى اختلاف في المواقف، بما في ذلك حول قضايا حساسة مثل دعم الإمارات لقوات الدعم السريع في السودان، والعلاقات السعودية المصرية في ظل قضيتي تيران وصنافير، وخلافات حول الشؤون الثقافية. كما كانت هناك قضايا جانبية، مثل إعلان هيئة الترفيه السعودية عن اقتصار المشاركة في مهرجان الرياض على الفنانين المحليين والخليجيين، مع استبعاد الفنانين المصريين.
يؤكد السفير هريدي أن هذه الاختلافات طبيعية تمامًا. وهو مقتنع بأن اختلاف الرؤى لا يعني تدهور العلاقات، وأن الدبلوماسية تُبنى على القدرة على تجاوز هذه التناقضات. وقال: “العلاقات المصرية السعودية هي العمود الفقري للمشرق العربي”، مؤكدًا أن التكامل هو الحل الوحيد الممكن لمستقبل المنطقة.
أكد العميد عكاشة هذا الرأي، مؤكدًا أن التناقضات لا تمس جوهر العلاقة الاستراتيجي، بل هي قائمة حتى بين القوى الكبرى. إلا أن قدرة القيادة السياسية على سد هذه الفجوة عبر اللقاءات الثنائية عامل حاسم في الحفاظ على الشراكة.
الاقتصاد من الودائع إلى الاستثمارات
وكان التعاون الثنائي، لاسيما في المجال الاقتصادي، حاضرا بقوة، لا سيما خلال اجتماعات اللجنة العليا المصرية القطرية المشتركة في العلمين، والتي حضرها رئيسي وزراء البلدين.
وفقًا للبيانات الرسمية والتقارير المالية، لا تزال دول الخليج من أكبر الداعمين للاقتصاد المصري. في مطلع عام 2024، أعلنت الإمارات العربية المتحدة عن حزمة استثمارية ضخمة بقيمة 35 مليار دولار لمشروع تطوير رأس الحكمة، منها 24 مليار دولار لشراء حقوق التطوير، و11 مليار دولار مُحوّلة من الودائع إلى استثمارات مباشرة. وتمتلك المملكة العربية السعودية أكثر من 10 مليارات دولار من الودائع لدى البنك المركزي المصري، بينما تسعى قطر إلى تعزيز شراكاتها الاستثمارية مع القاهرة من خلال خطة تتجاوز قيمتها 7.5 مليار دولار.
وأعرب السفير هريدي عن قناعته بأن هذه العلاقات الاقتصادية تشهد تقدما مطردا، مشيرا إلى أن “مصر باقتصادها القوي تشكل مصدر قوة لدول الخليج عسكريا وسياسيا”.
ويرى العميد عكاشة أن الخلافات السياسية حول بعض القضايا لم تؤثر على التعاون الاقتصادي والاستثماري وأنه مازال في اتجاه تصاعدي.
مع ذلك، ثمة انتقاداتٌ للتعاون الاقتصادي. يرى الخبير الاقتصادي رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، أن معظم الاستثمارات القطرية والإماراتية والسعودية لم تتدفق إلى الصناعات الإنتاجية، بل ركزت على قطاعاتٍ كالعقارات والمنتجعات السياحية، كما حدث في صفقة “رأس الحكمة” الشهيرة.
رغم هذه الملاحظات، يُقرّ عبده بالفوائد غير المباشرة لهذه الاستثمارات. ويعتقد أنها تُسهم في خلق فرص عمل في السوق المصرية، وتُخفّف الضغط على سوق الصرف الأجنبي، مما يمنح البنك المركزي مرونةً أكبر لتلبية احتياجات المستثمرين والعملاء المحليين.
ويشير عبده إلى أن “تحويل دعم مصر من دول الخليج من الودائع المصرفية إلى الاستثمارات والمشتريات والشراكات له فائدة مزدوجة لمصر والمستثمرين، رغم أن المكسب الأكبر يعود للمستثمر صاحب الإعداد الإداري الأفضل”.