فخري كريم يكتب: «انتصرنا».. شعار النكران والتمهيد لهزيمة أخرى!

منذ 5 ساعات
فخري كريم يكتب: «انتصرنا».. شعار النكران والتمهيد لهزيمة أخرى!

لقد آن الأوان للتأمل في مسار المواجهة مع العدوان الإسرائيلي – منذ إعلان الاستقلال عام ١٩٤٨ وحتى يومنا هذا – ولتقييم دقيق وعقلاني ومسؤول لعواقب وأسباب العجز العربي والإسلامي وتفاقم الصراع مع إسرائيل. ولعل ذلك يتحقق إذا توقفنا عن طمس الحقيقة برفع شعار “انتصرنا!” في كل مواجهة.لا يوجد شيء أكثر إيلاماً وإحباطاً من نضال صدام حسين، لأنه أخرج البلاد من حروبها بمزيد من الخسائر والهزائم!منذ بداية الحرب العراقية الإيرانية، كان لزاماً على قيادة الحزب الشيوعي العراقي أن تتخذ موقفاً من الحرب وتحدد منهجها في التعامل مع تطوراتها. وتزامن إعلان الحرب مع تصعيد غير مسبوق لطغيان حزب البعث بعد استيلاء الدكتاتور صدام حسين على السلطة وكشف وجهه الحقيقي كفاشي تجاوز نهجه نهج هتلر وموسوليني!وقد تجلى هذا التصعيد جزئياً في أن الحزب وجد نفسه أمام أحد خيارين لا ثالث لهما: إما التصفية الجسدية للحزب، ممثلاً بقيادته وكوادره وأعضائه والقوى الديمقراطية المتفاعلة معه، أو الدخول في “خيمة البعث”، أي الانسلاخ عن حزب البعث والتخلي عن وجوده السياسي والفكري والتنظيمي الفعلي تمهيداً لحله والانضمام إلى حزب البعث، كما كان مقصوداً بعد سقوط حكومة البعث الأولى عام 1963، بالانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي بقيادة “حركة القوميين العرب” في إطار السياسة المعروفة آنذاك بـ”خط آب” التصفوي اليميني.في ذلك الوقت، لم يكن أمام الحزب خيار سوى إدانة نظام صدام حسين، بعد أن اتضح أنه هو من بدأ الحرب، والمطالبة بإنهائها والانسحاب من الأراضي المحتلة. ومع تطور الحرب وتحولها إلى احتلال إقليمي من كلا الجانبين، وخاصة بعد معركة الفاو التي غزت فيها إيران الأراضي العراقية، كان موقفنا هو إدانة غزو الأراضي العراقية، وإدانة الاحتلال من جميع الأطراف، والمطالبة بالانسحاب وإنهاء الحرب والعودة إلى الحدود الدولية لكلا البلدين.إن هذا الموقف من الحرب، وإدانتها، وإدانة المعتدي، ورفض احتلال الأراضي الأجنبية، كان ولا يزال بالنسبة للشيوعيين نهجاً مبدئياً يجسد هويتهم الوطنية والدولية، بغض النظر عن طبيعة النظام القائم واستبداده.ويتجلى هذا النهج في عدوان إسرائيل على الجمهورية الإسلامية، ليس فقط لأنها بدأت الحرب، بل أيضاً بسبب طابعها العنصري والتوسعي والاستيطاني، واحتلالها للأراضي الفلسطينية والعربية، وتجاهلها لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والقوانين والأعراف الدولية، ورفضها تلبية المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولة وطنية مستقلة.هذا الموقف، الذي يعكس النهج المبدئي للشيوعيين والقوميين العراقيين، وكذلك سائر الدول العربية والعالم، يُظهر بوضوح أن الدفاع عن سيادة الشعوب وإدانة الحروب العدوانية لا يخضعان حتى لمعايير النظام المُعتدى عليه وموقفه المُعادي للحريات والحقوق والقيم الوطنية والإنسانية. وقد تبنى حزب توده الإيراني مواقف الشيوعيين نفسها، وتجاوز جراحهم ومعاناتهم على يد النظام القائم في إيران. في الواقع، كان هذا موقف قطاعات واسعة من قوى وشخصيات المعارضة الإيرانية في الداخل والخارج!إن أصوات هذه القوى المعارضة أكثر فعاليةً ومسؤوليةً ووفاءً من صراخ الموالين المرتزقة عديمي الهوية الوطنية العراقية. فبولاءها لوطنها والدفاع عن سيادته واستقلاله، تتغلب المعارضة على جراحها والظلم والقمع والحرمان والقهر والتهميش الذي تتعرض له.لم يستسلم الوطنيون العراقيون، الذين أدانوا العدوان الإسرائيلي، وانحازوا إلى إيران المعتدى عليها، للتدخل السافر في شؤون بلادهم الذي شهدوه منذ سقوط دكتاتورية صدام، ولم يستسلموا لسيطرة جماعة معزولة مسلحة خارجة عن إطار الدولة، وميليشيات مُكرسة لقمع أي حراك شعبي في إطار القانون، بقوة السلاح والتدمير المادي، كما حدث خلال انتفاضة أكتوبر. ولم يُخفوا ولاءهم لإرادة خارجة عن الحدود، وللدفاع عن مصالح لا تمت بصلة إلى المصالح الوطنية العليا للعراق.لا يمكن معالجة العواقب الكارثية لعدوان إسرائيل على الجارة إيران وشعبها بشعارات جوفاء، بل بالتعامل مع الحقائق والمعطيات الملموسة. هذا لا يعني بث روح الاستسلام والهزيمة والإحباط في نفوس الشعب والقوات المسلحة، بل توعيتهم بأسباب وعوامل خسائر وتضحيات وكوارث الحرب. وهذا يتطلب مواجهة هذه العواقب السلبية بحشد القوى لتحرير إرادة الشعب، وتعزيز القوى الوطنية، ورفع جاهزيتها لمواجهة أي تحدٍّ يمس سيادتها واستقلالها ومصالحها العليا. كما يتطلب العودة إلى نهج يحترم إرادة الشعوب والدول الأخرى، المجاورة منها والخارجة، ووقف التدخل في شؤونها تحت شعارات مضللة تُخفي تناقضات. أولها وأهمها الاعتراف بأن الدولة السليمة، المنافية للاستبداد، هي الإطار القادر على درء أي عدوان. بل من الضروري بناء علاقات أو تحالفات ودية بدلًا من الاعتماد على ميليشيات مرتزقة تعمل خارج سلطة الدولة وسيطرتها.للأسف الشديد، كانت الحركات الكبرى في البلدان العربية، وخاصة الأحزاب الشيوعية، تختتم بياناتها دائمًا بالعبارة الشهيرة: “رغم الخسائر والنكسات، لم تتمكن الإمبريالية والرجعية وعملاؤها من تحقيق جميع أهدافها!” دون أن تسأل: هل عجزنا نحن أيضًا عن تحقيق أي من أهدافنا؟

وليس عبثاً أن شعار “انتصرنا” بعد كل هزيمة وكل انتكاسة كان مقدمة لهزيمة أخرى ونكسة أخرى! لأن مثل هذا الشعار يوحي بشعور من الرضا الكاذب، ويغري بالرضا عن الذات ويؤدي إلى المزيد من الانحدار.


شارك