حرب إيران وإسرائيل.. من الرابح والخاسر من معركة الـ12 يوما؟

بمجرد دخول وقف إطلاق النار الهش بين إيران وإسرائيل حيز التنفيذ يوم الثلاثاء، سارع الجانبان، إلى جانب الولايات المتحدة، إلى الدفاع عن “انتصارهما” وتأكيد تفوقهما خلال الصراع الذي استمر 12 يوما.
في بيان صحفي، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “نصرًا كاملاً” بعد تحقيق جميع أهداف الهجوم. وأسفرت الهجمات المتكررة عن مقتل عدد من كبار السياسيين والعلماء الإيرانيين، وإصابة عشرات المنشآت المرتبطة بالبرنامج النووي الإيراني. وأعلن نتنياهو أن الهجوم “سيُخلّد في سجلات الحرب”.
صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن توقف العمليات الإسرائيلية في إيران جاء نتيجة اتصال هاتفي مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اتفقا فيه على تهدئة الوضع والامتناع عن شن المزيد من الهجمات. إلا أنه جدد استعداده لاستئناف الهجمات “إذا حاولت طهران إعادة بناء مشروعها النووي”.
في المقابل، نفت طهران الرواية الإسرائيلية. وزعم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن “الكيان الصهيوني لم يحقق أهداف عدوانه”.
وبين إعلان إسرائيل تحقيق نصر حاسم وتأكيدات طهران بالصمود و”إحباط مخطط العدوان”، فإن الصورة التي تظهر هي لحرب لم تحسم بالكامل على الأرض بعد.
في ظل تزايد عدد التصريحات المتبادلة وانعدام التأكيد الدولي المحايد على النجاحات، يبقى السؤال: من انتصر ومن خسر في حرب الأيام الاثني عشر هذه؟
ويرى الدكتور هاني سليمان، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن تقييم المكاسب والخسائر في المواجهة الأخيرة بين إسرائيل وإيران معقد للغاية نظراً للتناقضات العديدة التي تنطوي عليها.
ورغم أن إسرائيل تبدو الأكثر احتمالا لتحقيق النجاح مقارنة بإيران، إلا أنها دفعت ثمنا باهظا للأهداف التي حققتها، بحسب ما قاله سليمان لايجي برس.
وأشار سليمان إلى أن إسرائيل تمكنت من شن هجمات فعالة على القدرات النووية والعسكرية الإيرانية، خاصة بعد ما وصفه بالتدخل الأميركي “الحاسم” الذي ساعد في تعطيل أو على الأقل تأخير المشروع النووي الإيراني.
علاوة على ذلك، نجحت إسرائيل في إضعاف البنية التحتية الدفاعية الإيرانية، وخاصة من خلال استهداف قادة بارزين في الحرس الثوري والنخب القريبة من دوائر صنع القرار في طهران.
مع ذلك، أكد سليمان أن هذا التفوق ليس مطلقًا. فقد تعرضت إسرائيل لهجمات صاروخية إيرانية، والتي، رغم امتلاكها أنظمة دفاعية حديثة كالقبة الحديدية، وحيتس، ومقلاع داوود، وصواريخ باتريوت، استطاعت اختراق الأجواء الإسرائيلية بعمق. وقد كشف ذلك عن ثغرات أمنية في منظومة الدفاع الإسرائيلية.
من الجانب الإيراني، أكد سليمان أن طهران، ورغم الخسائر الفادحة، نجحت في تحقيق نوع من الردع النفسي والأخلاقي، بل وتمكنت من تصدير جزء من الأزمة إلى إسرائيل عبر الضغط الإعلامي والحرب النفسية.
صرّح مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بأن إيران نجحت في إعادة صياغة قواعد الاشتباك وإثبات قدرتها على تحقيق أهدافها داخل إسرائيل. ويُعزى هذا التطور إلى تفوقها الاستراتيجي.
وصف سليمان التجربة الإيرانية بأنها “نصف هزيمة” لعدم إسقاط النظام في طهران، وهو نجاحٌ كبيرٌ بالنظر إلى التحديات التي واجهتها. وأشار إلى أن الهجمات على المنشآت النووية الإيرانية لم تُسفر عن أي تسربات إشعاعية أو كوارث بيئية. وهذا يدعم فرضية أن طهران نجحت في تهريب حوالي 480 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، مما قد يُوفر لها نفوذًا استراتيجيًا في المفاوضات المستقبلية.
وأكد أن استمرار وجود هذا المخزون من شأنه أن يسمح لإيران بإعادة بناء برنامجها النووي في وقت لاحق، وربما الدخول في المفاوضات من موقع قوة، وهو ما من شأنه أن يعيد التوازن إلى ميزان الصراع في المنطقة.
ويعتقد سليمان أن تجنب الحرب الشاملة أعطى إيران المجال لإعادة ترتيب أوراقها العسكرية والسياسية في وقت كانت فيه السياسة الداخلية متماسكة نسبيا، وهو ما ساعد في تعزيز شرعية النظام.
وخلص سليمان إلى أن كلا الجانبين حقق أهدافًا محدودة ونسبية، بتكاليف وفوائد متفاوتة بشكل كبير. وأوضح أن إسرائيل حققت نجاحًا عسكريًا، وإن كان مكلفًا، بينما احتفظت إيران، رغم خسائرها، بنفوذ سياسي وعسكري، ويمكنها أن تنظر إلى نجاحاتها كفرصة لإعادة تشكيل سياستها الخارجية وتوسيع حضورها الإقليمي.
وقف إطلاق النار: وقف إطلاق النار تحت النار
في الوقت نفسه، تعتقد المدعية العامة للأمن القومي الأميركي إيرينا تسوكرمان أن إعلان وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران لم يمثل عودة إلى الاستقرار، بل كان بمثابة “وقف لإطلاق النار تحت النار” ــ وهو إعادة تموضع تكتيكي مقنع في صورة دبلوماسية.
وأشارت إلى أن الجانبين أظهرا بسرعة قوتهما بعد انتهاء التصعيد، لكن حساب المكاسب والخسائر يبدو أكثر تعقيدا عندما ننظر إليه من منظور الاستراتيجية الإقليمية والشرعية المحلية والتوازن على المدى الطويل.
وفقًا لزوكرمان، انتصرت إسرائيل عمليًا، لكنها دفعت ثمنًا استراتيجيًا باهظًا. فقد برهنت على تفوقها الاستخباراتي بتصفية عدد من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني، وتدمير بنى تحتية متطورة، بما في ذلك مواقع دفاع صاروخي، ومرافق طائرات بدون طيار، ومراكز لوجستية في سوريا وغرب إيران.
وأكدت أن الجيش الإسرائيلي أثبت قدرته على تنفيذ عمليات مكثفة وعالية الدقة في مناطق مختلفة دون الاعتماد المباشر على الدعم اللوجستي أو الاستهداف الأمريكي. كما نجح في تحطيم أسطورة الحصانة الإيرانية، التي لم يجرؤ أي طرف إقليمي على التشكيك فيها علنًا.
مع ذلك، أكدت زوكرمان أن هذا الانتصار الإسرائيلي كان محدودًا نظرًا لغياب قدرة ردع حقيقية وشاملة. ورغم تراجع القدرات الإيرانية، لم تتخلَّ عن طموحاتها الاستراتيجية. فلا يزال وكلاؤها، مثل حزب الله اللبناني، نشطين، ولا يزال الجهاز الأيديولوجي للحرس الثوري ومخزونات اليورانيوم الإيرانية على حالها. وأضافت أن وقف إطلاق النار لم يكن مبادرة إسرائيلية، بل نتيجة ضغط وساطة دولية، ودعم أمريكي مبهم، وتنسيق محدود.
ويضيف زوكرمان أنه على الرغم من محاولات النظام تصوير نفسه على أنه قادر على الصمود، فإن إيران هي الخاسر الاستراتيجي الأكبر في هذه المواجهة. فقد كشف فقدان كبار القادة العسكريين، وانكشاف منشآتها، وعجزها عن الرد المناسب، عن نقاط ضعف عملياتية، وقوض مصداقية استراتيجية الردع الإيرانية.
أشار المدعي العام للأمن القومي الأمريكي إلى أن خطاب القوة الإيراني، الذي بُني لعقود على تهديدات فيلق القدس والتصعيد الإقليمي، قد ضعف إلى حد غير مسبوق. وامتدت الصدمة أيضًا إلى الحلفاء، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الداخلية للنظام وروايته السياسية.
رغم هذه الخسارة، يعتقد زوكرمان أن إيران لا تزال تتمتع بنفوذ. فصمودها رغم الهجمات، وإن كان مكلفًا، يسمح لها بتصوير وقف إطلاق النار كدليل على صمودها. علاوة على ذلك، فإن ترسانتها النووية سليمة، وأسلحتها بالوكالة، وإن تأثرت، لم تُفكك بالكامل بعد.
تعتقد زوكرمان أن طهران ستنتقل على الأرجح من التصعيد العسكري إلى أشكال أخرى من المواجهة، كالحرب القانونية والعمليات السيبرانية والحملات النفسية. مع ذلك، تُشدد على أن الخسائر في ميزان القوى الإقليمي لا تزال حقيقية وتاريخية.
يصف زوكرمان الدور الأمريكي بأنه “غامض ومحدود”. لم تتدخل واشنطن إلا بالقدر الضروري لمنع تصعيد غير منضبط، وخاصةً لحماية قواتها في العراق وسوريا والخليج. إلا أن غياب الموقف الأمريكي الحاسم والتردد بين المطالبة بضبط النفس والسماح بتنسيق محدود مع إسرائيل أضعف صورة الولايات المتحدة كضامن للنظام الإقليمي.
واختتمت زوكرمان حديثها مشيرةً إلى أن الخاسر الأكبر في هذه الحرب هو مبدأ الردع المتذبذب. وأكدت أن الحرب أظهرت أن الخطاب الاستراتيجي لم يعد كافيًا، وأن الخطوط الحمراء تُختبر باستمرار. وعلى الأطراف الإقليمية الفاعلة الآن أن تُقيّم مدى استجابتها ومصداقيتها لتنفيذ تهديداتها. وقالت إن إسرائيل أخطأت التقدير، وإيران أخطأت التقدير، والنتيجة منطق إقليمي جديد تُحدد خصائصه الصواريخ، لا الكلمات.
“ضربة لمفهوم الردع الإسرائيلي”
يرى الدكتور هيثم عمران، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي بجامعة السويس، أنه بينما أعلنت كلٌّ من إيران وإسرائيل “النصر” بطريقتها الخاصة بعد انتهاء المواجهات المباشرة، فإن الواقع الميداني والسياسي يرسم صورةً أكثر تعقيدًا. لم يحقق أيٌّ من البلدين نصرًا حاسمًا؛ بل ثبت أن الحرب كانت معركةً رمزيةً ذات خسائرَ غامضةٍ ومكاسبَ محدودة.
وأضاف أن كلا الجانبين دخلا في مواجهة هدفها الرئيسي إرساء قواعد اشتباك جديدة واختبار قدرات الردع، وليس حسم الصراع نهائيًا. وأشار إلى أن إسرائيل بدت في البداية وكأنها حققت نجاحات عسكرية تكتيكية من خلال تنفيذ ضربات دقيقة على مواقع إيرانية، بما في ذلك منشآت الصواريخ والطائرات المسيرة. كما أظهرت إسرائيل قدرات استخباراتية كبيرة من خلال مهاجمة مواقع حساسة في إيران وسوريا ولبنان، واختبار فعالية أنظمة دفاعها الجوي، مثل القبة الحديدية ومنظومتي “حيتس”، في التعامل مع موجات متزامنة من الهجمات.
من ناحية أخرى، برزت خسائر إسرائيل الصامتة، كاشفةً عن نقاط ضعف استراتيجية عميقة. ولأول مرة، تعرضت أراضي إسرائيل لهجوم مباشر ومنسق من دولة بحجم إيران. وقد حطم هذا أسطورة الأمن الإسرائيلي المتمثلة في نقل المعركة إلى أرض العدو. ورغم تفوقها التكنولوجي والجوي، لم تتمكن إسرائيل من صدّ هجوم إيراني. ويمثل هذا ضربةً واضحةً لمفهوم الردع الإسرائيلي، وقد أثار اضطراباتٍ داخلية، لا سيما في ظل الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وتزايد الضغط الشعبي.
وعلى الصعيد السياسي، تواجه حكومة نتنياهو عزلة دولية أكبر بسبب تزامن هذه المواجهة مع التصعيد المستمر في قطاع غزة، ما يزيد الضغوط السياسية والدبلوماسية على تل أبيب، كما يقول عمران.
“اكسر الخطوط الحمراء”
دخلت إيران الحرب رغم إدراكها عجزها عن خوض مواجهة شاملة، لكنها ركزت على تحقيق أهداف رمزية وأخلاقية. ويبدو أن إيران نجحت في توجيه ضربة معنوية لإسرائيل بقصفها المباشر للأراضي الإسرائيلية لأول مرة في تاريخ الصراع. وقد اعتُبر ذلك تجاوزًا للخطوط الحمراء وتغييرًا لقواعد الاشتباك التي كانت تُنفذ سابقًا خلف الكواليس أو عبر وكلائها.
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي في جامعة السويس أن إيران، بهذا التغيير في مسارها، عززت مكانتها بين حلفائها في محور المقاومة، وأصبحت قوة إقليمية قادرة على تحدي تفوق إسرائيل، حتى لو كان أخلاقيا فقط.
مع ذلك، كانت تكلفة المواجهة باهظة على طهران. فقد عانت من هجمات إسرائيلية مؤلمة على منشآت دفاعية، وربما منشآت نووية، مما قد يُضعف موقفها في المفاوضات المستقبلية بشأن برنامجها النووي. علاوة على ذلك، كشف الاختراق العميق للداخل الإيراني عن محدودية نظام الدفاع الإيراني، وزاد الضغط الاقتصادي في مواجهة تهديد فرض عقوبات جديدة. وأوضح عمران أن هذا وضع إيران أيضًا في مسار تصعيدي غير متوقع، لا سيما في ظل التصعيد المصاحب للخطاب الأمريكي.
يؤكد أستاذ القانون الدولي أن المواجهة بين الطرفين لا تقتصر على التداعيات العسكرية فحسب، بل لها أيضًا عواقب غير مباشرة على المستويين الإقليمي والدولي. فقد فقدت إسرائيل سمعتها كقوة لا تُقهر، مما قد يشجع خصومها، مثل حزب الله وحماس، على اتخاذ مواقف أكثر جرأة في المستقبل.
ورغم أن إيران اكتسبت بعض التعاطف في الشارع العربي، إلا أن تحركاتها الأخيرة أثارت قلقاً حقيقياً في دول الخليج، وهو ما قد يؤدي إلى تسريع تطبيع العلاقات الأمنية والعسكرية بين تل أبيب وبعض العواصم الخليجية، كما يقول عمران.
بينما تعتمد النتيجة على مدى تحقيق الأهداف المعلنة، لم يحقق أيٌّ من الطرفين هدفه النهائي. حاولت إسرائيل تحييد قدرات إيران في مجال الطائرات المسيرة والصواريخ دقيقة التوجيه، لكنها فشلت. في غضون ذلك، حاولت إيران إرساء استراتيجية ردع جديدة، وإن كان ذلك بتكلفة باهظة واستدامة غير مؤكدة.
باختصار، لم تُسفر الحرب عن منتصر واضح، بل كشفت عن توازن ضعف بين قوتين تحاولان فرض شروط جديدة في ظل توتر إقليمي. بين المكاسب الرمزية والخسائر الاستراتيجية، تبدو المنطقة على شفا جولات تصعيد جديدة، دون أي أمل في حل شامل أو تهدئة طويلة الأمد.