بين مصر وتونس.. بالأرقام ماذا قدمت هند صبري للسينما العربية؟

سيطرت الممثلة هند صبري على مواقع التواصل الاجتماعي المصرية بسبب تعليقات منسوبة إليها تتعلق بجنسيتها التونسية وهجومها على مصر. وثبت أنها لم تُدلِ بتصريحات في هذا الشأن، إلا أن النقاش والجدل استمرا، إذ استاء البعض من دعم هند لما يُسمى “قافلة صمود تونس”. ثم انطلقت حملة شرسة تطالب بإسقاط جنسيتها. في المقابل، عارضت بعض الأصوات هذه الحملة، ومنهم المخرج يسري نصر الله، والمخرجة هالة خليل، والمخرج أمير رمسيس، والمنتج صفي الدين محمود، والممثلة هالة صدقي، والممثلة إلهام شاهين، وآخرون.
بدأت هند صبري مسيرتها الفنية في منتصف التسعينيات. وبعد سنوات قليلة، هاجرت إلى مصر ورسخت مكانتها بسرعة في سوق السينما المصرية. ورغم بدايتها المبكرة، إلا أنها تُلاحق باستمرار بسبب الجدل حول جنسيتها. بعيدًا عن هذا الجدل العبثي، وبالقرب من مسيرتها الفنية الحافلة، أجرينا هذا الاستطلاع الرقمي لفهم مكانة هند في السينما المصرية والعربية من خلال تحليل أنشطتها في مصر وتونس.
خلال فترة بحثها الممتدة من عام ١٩٩٤ إلى عام ٢٠٢٥، قدمت هند ٣٥ فيلمًا، معظمها أفلام روائية طويلة، مع بعض الأفلام القصيرة. وقد خاضت مؤخرًا غمار السينما الوثائقية والدرامية “الدراما اللاذعة” بفيلمها التونسي “بنات ألفا”. وتعاونت مع ٢٥ مخرجًا، من بينهم خمس مخرجات: مفيدة التلاتلي، وهالة خليل، وإيناس الدغيدي، وهند بوجمعة، وكاملة أبو ذكري. وتشمل مساهمات هند ٢٥ فيلمًا مصريًا، وثمانية أفلام تونسية، وفيلمًا تونسيًا واحدًا من كندا، وفيلمًا تونسيًا واحدًا من ألمانيا.
ظهرت هند لأول مرة في مصر عام ٢٠٠١ بفيلمين جريئين: “مذكرات مراهقة” للمخرجة إيناس الدغيدي، و”مواطن، محقق، ولص” للمخرج داود عبد السعيد. بأدوار المراهقة الحالمة جميلة والعاملة المنزلية جميلة، قدمت هند نفسها للجمهور المصري، حيث تُعدّ الحياة الجنسية للمرأة موضوع نقاش، بأسلوب قوي ومثير للجدل. كانت بحاجة إلى خطوة أكثر حميمية للتواصل مع الجمهور ككل، وليس فقط مع فئة محددة من مُحبي هذه الأعمال. وقد أحدث دور “يسرية” في “أحلى الأوقات” هذا التغيير الجذري. ووصفه هاشم النحاس في مقال له عن فيلم “مذكرات مراهقة” قائلاً: “لا تزال الممثلة التونسية الشابة تُثبت قدرتها على تقديم أداء مُقنع”. وفي مقال آخر عن فيلم “إبراهيم الأبيض”، قال عن شخصية “حورية”: “تُؤكد الفنانة التونسية هند صبري مكانتها كممثلة وهويتها المصرية في هذا الفيلم”. لاقى دور “يسرية” في فيلم “أحلى الأوقات” العديد من التعليقات الإيجابية عند عرضه، منها: “كانت الفنانة الشابة هند مفاجأة الفيلم”. تميزت يسرية في تجسيدها لشخصيتها بمشاعر وعواطف صادقة وعفوية، تتدفق كالسيل كلما سنحت لها الفرصة، فتملأ السينما فرحًا وحيوية وتعاطفًا.
وفي مقال له عن فيلم «عمارة يعقوبيان»، قال الناقد محمود عبد الشكور عن شخصية بثينة: «هند صبري تفاجئنا بعفويتها وأدائها الذي يتطور يوماً بعد يوم ويؤكد أنها واحدة من أبرز نجمات جيلها، القادرة على الأداء بقوة وبساطة في آن واحد».
قدمت هند شخصياتٍ مصريةً بامتياز في مظهرها وأدائها ومعاناتها، في أدوار “بثينة” و”يسرية” و”حورية”. كما جسدت حياة امرأةٍ بسيطةٍ من الطبقة الراقية تبحث عن لقمة عيشها في أفلامٍ قصيرة، مثل فيلم “صباح الفل” للمخرج شريف البنداري، وهو صرخةٌ صامتةٌ عن عاملةٍ في مصنع نسيجٍ نسيت أنوثتها في خضمّ صراع الحياة اليومي.
يقودنا هذا النقاش إلى أرقام أخرى كشفت عنها عمليات الرصد، وتحديدًا تلك المتعلقة بالمحتوى النسوي لأعمال هند صبري السينمائية. تُظهر الأرقام أن هند قدّمت أحد عشر فيلمًا يُمكن تصنيفها ضمن الأفلام ذات المحتوى النسوي، من بينها “لعبة الحب”، و”مذكرات مراهقة”، و”دمى من الطين”، و”حلم نورا”، و”صمت القصور”، و”صباح الخير”. كما تتناول مواضيع مهمة أخرى، مثل الإرهاب والانضمام إلى التنظيمات الدينية المتطرفة، في أفلام مثل “زهرة حلب” و”بنات الفاتح”. عادةً ما تحتوي أفلام هند على عنصر درامي قوي، بل وحتى كوميدي، مثل فيلم “أريد حقوقي”، الذي يُعالج احتياجات المواطن المصري العادي والفجوة بينه وبين ما تُقدمه الحكومة.
هناك أعمال أخرى لم تكن نسوية في المقام الأول، لكن شخصية هند لم تخلُ من التمرد ومعالجة قضايا المرأة، مثل شخصية “بثينة” في فيلم “عمارة يعقوبيان”. تناولت هند مشكلة التحرش في أماكن العمل والضغط على الفتيات لكسب عيشهن من خلال الجنس. كما لعبت دور الناشطة المصرية دولت فهمي من صعيد مصر، التي قُتلت فيما يُسمى “جريمة شرف” لدفاعها عن إحدى زميلاتها في المقاومة.
وفي تعليقه على هذه الأرقام في مسيرة هند صبري السينمائية، قال الناقد رامي المتولي لـ«الشروق»: «هند تعتبر من أهم الممثلات في الوطن العربي بأكمله، وهذه الأرقام تؤكد أهمية وجود ممثلة مثقفة وواعية تنعكس أفكارها ومبادئها في الأعمال التي تشارك فيها».
وأضاف: “تزامن صعود هند صبري مع صعود السينما النظيفة في مصر، ومعها النماذج التي احتاجتها السينما. كانت هناك مواضيع لم تُعرض على الشاشة في ذلك الوقت، لكن هند استطاعت سدّ هذه الفجوة. ويُعتبر وجودها في السينما المصرية حركةً مضادةً للاتجاه السائد. أعتقد أن هذا نابعٌ من إيمانٍ ومبادئ لم تتخلَّ عنها منذ البداية وحتى اليوم. فهي، كممثلةٍ محترفة، تُولي أهميةً لاختيار الأدوار التي تُناسبها، والتي تتسق مع شخصيتها وأدائها واستمراريتها. وقد أتاح اندماج هند في المجتمع المصري مساحةً للتنوع، واختيرت لأدوارٍ مُتنوعة”. وأكد: “لدى هند تأثيرٌ بالغٌ في المنطقة، وهي وجهٌ يُعبّر بشرفٍ عن القضايا المهمة”.
تُعتبر هند صبري ممثلةً جريئةً، تُستثمر أدائها في تجارب جديدة تُقدمها في مهرجانات عالمية، مثل فيلم “بنات الفاتح”. يكسر الفيلم النمط السردي التقليدي، ويجمع بين الحقيقة والدراما في قصة جادة تتناول التطرف والمرأة والمجتمع التونسي. رُشّح الفيلم لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي، وفاز بجائزة الشرق لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان البحر الأحمر السينمائي.