خطيب الجامع الأزهر لمن يقضون المنازعات بالثأر: يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما

أكد الدكتور محمود الهواري، وكيل الأمين العام لشؤون الدعوة والإعلام بمجمع البحوث الإسلامية، أن حرمة الدماء من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قضية ملحة تتطلب تأملاً عميقاً، لا سيما في ظل ما نشهده من سفك دماء على الصعيدين العالمي والمحلي.
وأضاف: “في حين يُعتبر عصرنا عصر الحضارة والقانون، نشهد تراجعًا مريبًا نحو قانون الأقوى، حيث يسفك القوي دماء الضعيف، وتُسلب موارد الشعوب، ويُحرمون من حقهم في تقرير مصيرهم، وتُمحى إنسانيتهم. ما يحدث لأهل غزة دليل على هذه الصورة المأساوية والقبيحة. ومما يُحزن ويُقلق انتشار العنف وسفك الدماء في مجتمعنا، وتزايد جرائم القتل لأتفه الأسباب، بينما تُصدمنا يوميًا أنباء قتل الأبرياء”.
جاء ذلك خلال خطبة الجمعة اليوم في الجامع الأزهر، بعنوان “حجة الوداع: دروس وأخلاق”. تساءل فيها عما آل إليه حال بلدنا، الذي لطالما عرفناه أرضًا للعلم والحكمة والخير. هذا البلد الذي أنجب علماءً وشيوخًا ومفكرين كبارًا كالشيخ حسونة النووي والشيخ المراغي والشيخ محمد سيد طنطاوي، وقراءً كبارًا كآل المنشاوي والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وأدباءً بارزين كعباس محمود العقاد ومصطفى لطفي المنفلوطي، فلماذا استبدلنا الرحمة بالقسوة؟ وهل تغلبت العادات البالية على شرائع الإسلام وأخلاقه السمحة؟ قال الدكتور محمود الهواري إنه في يومٍ مباركٍ كهذا، قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وقف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بين جموع المسلمين خطيبًا في حجة الوداع. وفي ذلك، فضّل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بأهم وصاياه، عالمًا يقينًا أنها قد تكون آخر حجة له. لم تكن هذه الحجة مجرد فريضة دينية، بل كانت وثيقةً لحقوق الإنسان العالمية، ومبادئَ خالدةً راسخةً لحماية الدماء والمال والأعراض.
أوضح نائب أمين مجمع البحوث الإسلامية أن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى على الحجاج ثلاث خطبٍ رئيسية في هذا الحج: الأولى يوم عرفة، والثانية يوم النحر بمنى، والثالثة في منتصف أيام التشريق بمنى. وشهدت هذه الخطب معجزةً نبويةً، تجلّت في أن 144 ألف مسلم استطاعوا سماع كلامه صلى الله عليه وسلم بوضوحٍ تام، في وقتٍ لم تكن فيه مكبرات صوت ولا إذاعات داخلية. وأضاف أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجمع الغفير أعلن حقوق الإنسان التي لا تزال البشرية تتغنى بها اليوم. وكانت وصيته – صلى الله عليه وسلم – رسالةً حضاريةً للبشرية جمعاء، داعيةً إلى ثلاث حرماتٍ أساسيةٍ لحفظ كرامة الإنسان: حرمة الدماء، وحرمة المال، وحرمة الأعراض. “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام”. بقدر ما هو مقدس هذا اليوم بالنسبة لك، فإن هذا الشهر بالنسبة لك، وهذا البلد بالنسبة لك.”
أشار خطيب الجامع الأزهر إلى أن الإسلام يأمر بالسلام العالمي، لا المحلي فحسب. وقد خص البخاري، رحمه الله، صحيحه بباب “إشاعة السلام من الإسلام”. فكيف يعجز بعضنا عن إشاعة السلام بين أقاربه وجيرانه، والإسلام يأمر بنشره في العالم أجمع؟ تدور أحكام الإسلام حول خمسة مبادئ أساسية تحميه، أهمها حفظ النفس وحقوقها، وعلى رأسها الحق في الحياة. فالله تعالى هو الذي وهب الحياة للإنسان، فكيف يسلبها إنسانٌ من إنسانٍ لأسبابٍ فاسدة، أو غضبٍ جامح، أو عادةٍ سائدة؟ القتل من كبائر الذنوب في الإسلام.
أوضح أن الله تعالى قد شدد عقوبة قتل النفس بغير حق. قال تعالى: ﴿والذي لا يدعون مع الله إلهًا ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك فله أذى * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانًا * إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا﴾. وقال أيضًا: ﴿ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وكتب عليه عذابًا عظيمًا﴾. فالقتل ليس بالأمر الهين، بل هو من أعظم الكبائر، لأنه يخالف إرادة الله تعالى. يقول الحديث الشريف: (لا يزال المؤمن في حدود دينه ما لم يصب دماً حراماً).
وأشار إلى أن أكثر أسباب الفتن والقتل شيوعًا في مجتمعنا هي التعصب القبلي أو الأسري، أو الغضب من تفاهات الأمور، أو تلك القيم والأعراف الفاسدة التي تملأ نفوس الشباب وتؤدي إلى القتل لأدنى خلاف. وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك قائلًا: “من دعا إلى التعصب لم يقاتل على التعصب، ولم يمت على التعصب”. فقتل نفس كقتل البشرية جمعاء، وإنقاذها بالعفو والتسامح والتفاهم والتنصل من مسؤولية ذنوب الآخرين كإنقاذ البشرية جمعاء. قال الله تعالى: “ومن أجل ذلك وصينا بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن…” “ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا”.
ووجه خطيب الجامع الأزهر سؤالاً إلى من يلجأون إلى العادات الجاهلية لحل خلافاتهم، تاركين تعاليم الشريعة الإسلامية وقانون الدولة: بأي ذنب يُقتل الإنسان؟ وإلى متى سيبقى ميراث الجاهلية بيننا؟ وإلى متى سيبقى الغضب ستاراً على الرحمة؟ وذكّرهم بأهمية أن يستلهم مجتمعنا المعاصر من تعاليم حجة الوداع، وأن يقتدي بسنّة نبينا الكريم، وأن يغرس في نفوس أبنائنا قيم الرحمة والتسامح والسلام وحرمة الدماء، حتى تستعيد مجتمعاتنا أمنها وطمأنينتها.