سمير عمر يكتب: ناجي وغسان والشتات الفلسطيني

كنت في العلمين في نهاية شهر يوليو/تموز 2023، أستعد لتغطية اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، الذي دعاني إليه الرئيس الفلسطيني محمود عباس. ويأتي اللقاء على خلفية العدوان الإسرائيلي المستمر منذ يومين على مدينة جنين ومخيمها.
وفي يوم 30 تموز/يوليو، وصلت الحافلة التي تقل الأمناء العامين قبل الظهر إلى الفندق الذي كان من المقرر أن تعقد فيه الاجتماعات. وكانوا جميعاً هناك، باستثناء قادة حركات الجهاد الإسلامي، وطليعة حرب التحرير الشعبية، والصاعقة، والجبهة الشعبية – القيادة العامة. صافحت معظمهم وتحدثت مع بعضهم. وقلت لرئيس المكتب السياسي الراحل لحماس إسماعيل هنية: ربما هذه هي الجولة الأخيرة يا أبو العبد!
فأجاب مبتسما: هل تعتقد ذلك؟ إن شاء الله كل شيء بخير. ودارت المناقشات في قاعة المؤتمرات الكبرى بالفندق، في حين تصاعدت الأحداث في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان بعد اغتيال رئيس جهاز الأمن الفلسطيني والقيادي في حركة فتح أبو أشرف العرموشي على يد مجموعات فلسطينية متطرفة. وكان من الطبيعي أن تلقي أحداث المخيم بظلالها القاتمة على أجواء اللقاء الذي لم يتوقع الكثيرون منه جديداً في ظل الانقسامات العميقة بين الفصائل الفلسطينية. وهذا ما حدث بالضبط.
عاصمة الشتات الفلسطيني
تم بناء مخيم عين الحلوة لإيواء الفلسطينيين من قرى الجليل في شمال فلسطين بعد أن أجبروا على مغادرة منازلهم في أعقاب النكبة عام 1948. وهو أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. تم تأسيسها بمبادرة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر جنوب شرقي مدينة صيدا. وظل الفلسطينيون يعيشون هناك في الخيام على أمل أن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم. وبحلول عام 1952، أصبحت الخيام متداعية، وبدعم من الأونروا، بدأ الناس في بناء منازل مصنوعة من الطوب والأسمنت. ورأى البعض في ذلك إشارة إلى أن العودة إلى الوطن أصبحت الآن أمراً بعيد المنال، ومنذ ذلك التاريخ أصبح المخيم عاصمة الشتات الفلسطيني. كان مخيم عين الحلوة وما زال مسرحاً لكل التناقضات الفلسطينية، وساحة مفتوحة لجولات الصراع، فما أن تنتهي إحداها حتى تبدأ الأخرى.
ولكنها كانت أيضًا أرضًا خصبة لظهور المواهب الفلسطينية التي أصبحت أسماؤها محفورة في الذاكرة الجماعية للفلسطينيين. قضى رسام الكاريكاتير الفلسطيني الأشهر ناجي العلي جزءاً من طفولته وشبابه هناك، ورسم أولى لوحاته على الجدران الخشنة. وعندما أقيم احتفال شعبي بيوم فلسطين في المخيم عام 1962، شارك في الاحتفال العديد من القادة الفلسطينيين، ومن بينهم الكاتب والناشط الفلسطيني الشاب غسان كنفاني.
توقف غسان كنفاني أمام إحدى اللوحات ليسأل من يملكها، فتلقى الجواب من ناجي العلي مدير المعرض الفني: “أنا صاحب هذه اللوحة”.
تصور اللوحة خيمة على شكل هرم، وترتفع قبضة من قمتها، تطالب بالانتقام والتصميم والنصر. كان هذا أحد الشعارات الرئيسية للحركة القومية العربية التي ينتمي إليها غسان كنفاني: “الوحدة – التحرير – الثأر”.
سأل غسان كنفاني ناجي العلي: ما الذي دفعك لرسم الخيمة على شكل هرم؟ ما هي العلاقة بين الخيمة والهرم؟
فرد العلي: العلاقات، وليست مجرد علاقة. أولاً، يتميز الشعب الفلسطيني بالخيمة، والشعب المصري بالهرم. عندما تقول خيمة تقول فلسطين، وعندما تقول هرم تقول مصر. وتابع ناجي العلي: «الهرم والخيمة هما مسكنان لهم ولنا». ولكنهم “المصريون” يسكنون الهرم في موت الحياة، وهو دليل الخلود. نحن “الفلسطينيون” نسكن الخيمة في حياة الموت، دليلاً على الإصرار على العودة، وأيضاً على الخلود، ولكي تبقى قضيتنا حمراء كالجمر المشتعل.
ويواصل ناجي العلي حواره الأول مع غسان كنفاني، شارحاً فلسفة الخيمة والهرم، إلى أن يقول: «إن العلاقة بين الخيمة والهرم تنبع من أنه بدون مصر لا يمكن أن يكون هناك تحرير لفلسطين، وهو ما يعني بصراحة أنه بدون مصر لا يمكن أن يكون هناك نصر». جرى الحوار الأول بين ناجي العلي وغسان كنفاني في مخيم عين الحلوة، وانتهى بقيام كنفاني بأخذ رسومات ناجي العلي ونشرها في مجلة الحرية، لسان حال الحركة القومية العربية. وهذا مهد الطريق أمام ناجي العلي ليصبح واحداً من أهم رسامي الكاريكاتير الفلسطينيين.
الإبداع والمقاومة
وبكلمات الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو التي صرخ بها في وجوه عدد كبير من الكتاب والمثقفين الفلسطينيين: “قبل أن تكتبوا بالدم تعلموا الكتابة بالحبر”. إن الشعر السيئ هو شكل من أشكال الثورة المضادة، وكذلك المقالات، والبرامج الإذاعية، والعروض المسرحية، والأفلام، وكل أشكال التعبير والرأي.
لقد كان ناجي العلي وغسان كنفاني الذي كان يكبره بعام ويتقدم عليه بسنوات في ساحات النضال، نموذجين للإبداع الدؤوب في المقاومة.
عندما ابتكر ناجي العلي شخصية الطفلة الفلسطينية “حنظلة” لتكون تميمته المحبوبة، قدمها للقارئ على النحو التالي: عزيزي القارئ، اسمح لي أن أعرفك بنفسي. اسمي حنثالة اسم الأب: غير مطلوب اسم أمي نكبة مقاس قدمي: لا أعرف لأنني دائمًا حافي القدمين جنسيتي: لست فلسطينيًا، ولا كويتيًا، ولا لبنانيًا، ولا مصريًا صديقك مجرد عربي لقد التقيت بالرسام ناجي، الذي يكره عمله لأنه لا يجيد الرسم. وأوضح لي السبب: كلما يرسم فإنه يستدعي قائداً أو وزارة أو سفارة. أخبرني أنه كان يخطط للبحث عن نوع آخر من العمل. بعد مواساته وتعريفه بنفسي، أخبرته أنني على استعداد لرسم صورة كاريكاتورية له كل يوم. وأوضحت له أيضًا أنني لا أخاف أحدًا سوى الله، وأن أي شخص يريد إغضابها يمكنه رصف البحر.
ومنذ أن سجلت صحيفة السياسة الكويتية أول ظهور رسمي لحنظلة حتى اغتيال ناجي العلي في لندن عام 1987، ظل حنظلة رمزاً فلسطينياً وعربياً.
كان ناجي العلي ثائراً متحمساً، لم يكن قلمه خاضعاً إلا لما كان يعتقد أنه الحق. إن قصة حياته واغتياله على يد “مجهولين”، ربطهم البعض بالقيادة الفلسطينية بينما اتهم آخرون إسرائيل بالتواطؤ في الجريمة ــ وهو سيناريو محتمل ــ تجسد محطات بارزة في النضال الوطني الفلسطيني منذ ولادته في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين وحتى وفاته في عاصمة الضباب.
كما شهدت رسومات ناجي وأفكاره الجامحة على التناقضات والتنافسات بين الفصائل الفلسطينية، والتي وصلت حتى إلى صراعات داخلية على السلطة. ولذلك، بالنسبة لرجل بهذه السيرة الذاتية، لم يكن من المستغرب أن تكون هذه هي نهايته.
قبل عام تقريباً من ولادة ناجي العلي، ولد الكاتب والثوري غسان كنفاني. تم اغتياله في 8 يوليو 1972 في بيروت على يد الموساد الإسرائيلي باستخدام عبوة ناسفة وضعت في سيارته. وكانت معه ابنة أخته لميس.
وكما ذكرنا سابقاً فإن غسان كنفاني هو أول من نشر رسومات ناجي العلي في مجلة الحرية. وعندما توفي كنفاني، تأثر بشدة برسومات العلي، ورفض قبول التعازي. وقد كتب صديقه الشاعر عز الدين مناصرة قصيدة في رثائه بعنوان: “التعازي مقبول في كل منفى”.
السيرة الذاتية القصيرة لغسان كنفاني مليئة بالأحداث المهمة.
بالنسبة للشاب الذي أثارت كتاباته مشاعر إسرائيل، كان من الطبيعي أن يصبح هدفاً لمحاولة اغتيال. بالنسبة للمفكر الذي تصف رواياته رحلة الضياع الفلسطينية في الشتات، مؤكدة على حتمية العودة إلى الوطن، لم يكن مفاجئاً أن تبقى قصة حياته حية في الذاكرة رغم وفاته.
في روايته الرائعة “رجال في الشمس” الصادرة عام 1963، يصف غسان كنفاني أحداث الخروج من فلسطين بعد النكبة وأثرها على من شهد تلك الأحداث المؤلمة. ثم نشر كتاب “ما تبقى لك” وتلته روايته:
“عالم ليس عالمنا”
كان غسان كنفاني يدرك أن آلام الفلسطينيين لا يمكن تخفيفها إلا من قبل الفلسطينيين أنفسهم. صحيح أن هذه قضية عربية وإنسانية بامتياز، ولكن لا مفر من النضال الفلسطيني، لأن الفلسطينيين ليس لديهم تقوى أخرى سوى سلاحهم.
إن أشخاصاً مثل ناجي العلي وغسان كنفاني لن يختفوا أبداً، وفي كل مرة يستيقظ فيها العالم على عدوان إسرائيلي جديد ضد الشعب الفلسطيني، يتذكر الجميع القوة التي مارسها هذان الرجلان وأمثالهما، ليس بالسلاح، بل بالكلمات والأفكار.
وكان الرجلان يدركان أن إسرائيل عدو لا بد من مواجهته، كما أدركا أن الخلافات بين الفلسطينيين هي خطيئة لا بد من تطهيرها.
وهنا يتكرر المشهد: العدوان الإسرائيلي لا يتوقف حتى يشتعل من جديد، والخلافات والخصومات الفلسطينية تتجدد حتى في خضم المواجهات.
وهذا ما حدث عندما كنا في العلمين في 30 يوليو 2023، وقبل ذلك. وعندما وقعت الحادثة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم يتغير الوضع بل ازداد سوءا. ويستمر العدوان الإسرائيلي ويصبح أكثر وحشية وإجراما، وتشتت الصراعات بين الفلسطينيين، والفلسطينيون الذين يحلمون بحقهم المشروع في العودة ودولة مستقلة هم الوحيدون الذين يدفعون الثمن.