كيف طوّر زياد الرحباني موسيقى الرحبانية؟

امتلك الراحل زياد الرحباني موهبة فريدة، ميّزت موسيقاه عن المدرسة التقليدية للأخوين عاصي ومنصور الرحباني. تميّزت ألحانه بجرأتها ومزجها المبتكر بين الموسيقى الشرقية والغربية، وخاصةً موسيقى الجاز.
في كثير من أعماله، تمرد زياد على الأسلوب الرحباني الكلاسيكي، متأثراً بتربيته خلال الحرب الأهلية اللبنانية، والتي شكلت بشكل واضح شخصيته ومزاجه الفني والفكري.
في هذا التقرير، تستعرض الشروق كيف ساهم زياد الرحباني في تطوير موسيقاه وانتقالها من الأسلوب الرومانسي الحالم إلى الواقعية النقدية الجريئة.
*خط موسيقى جديد
أعرب الدكتور وليد شوشة عميد المعهد العالي للنقد الفني بالقاهرة والإسكندرية والرئيس السابق لنادي الموسيقى عن حزنه العميق لوفاة زياد الرحباني، واصفاً إياه بـ”الشخصية الإبداعية الاستثنائية” التي فقدها العالم العربي في لحظة حاسمة.
أوضح شوشة لـ”الشروق” أن الأخوين الرحباني، عاصي ومنصور، ينتميان إلى المدرسة الكلاسيكية التي تعتمد على الأنماط الشرقية مع بعض التأثيرات الغربية البسيطة. وأكد أن صوت فيروز كان المحور الأساسي في تشكيل هذا الأسلوب المميز.
في المقابل، طوّر زياد أسلوباً موسيقياً مختلفاً، متخذاً الجاز الآلة الرئيسية، متأثراً بتوجهاته اليسارية وتعليمه خارج لبنان، ليخلق هوية موسيقية مستقلة وفريدة.
وأضاف أنه على الرغم من أصوله التي تعود إلى القرن الثامن عشر، فقد حافظ الجاز على شعبيته لقدرته على استيعاب مختلف الأنماط الصوتية وحل المشكلات الفنية في التلحين والتوزيع. وقد نجح زياد في تكييف الجاز ليتناسب مع الأغاني اللبنانية والعربية، دون إغفال جذوره الشرقية.
*التكنولوجيا وتحديات التوزيع
أشار إلى أن الوسائط التي تُنقل من خلالها الألحان تُحدد بشكل كبير عمرها الفني. فرغم سهولة الوصول إليها وإنتاجها، قلّصت التكنولوجيا الحديثة من عمرها الافتراضي. ومع ذلك، تبقى موسيقى زياد، وخاصةً موسيقى الجاز، “حالة استثنائية” لأنها تتحدى الأذواق المتغيرة والنزعة الاستهلاكية المتزايدة.
*فيروز تتألق بألحان ابنها
كانت أولى محاولات زياد الرحباني التلحينية لوالدته فيروز ألبوم “كيف حالك؟”، الذي لاقى في البداية انتقادات واسعة، حتى أنه اعتُبر “نهاية فيروز”. لكن خلافًا للتوقعات والمزاج السائد آنذاك، أحدثت هذه التجربة نقلة نوعية في صوت جار القمر، ورسّخت مكانة زياد كمبدع في الموسيقى اللبنانية.
وأضاف شوشة أن العديد من أغاني فيروز التي لحّنها زياد تفوقت شعبياً على أغاني الأخوين رحباني، خاصة وأنها نجحت في مخاطبة ضمير اللبنانيين الذين قسمتهم الحرب الأهلية، وعرضت مشاكلهم بلغة فنية معاصرة قريبة من نبض الشارع.
وأضاف أن إعادة توزيع زياد لأعمال الأخوين رحباني القديمة أنعشتها وجعلتها في متناول الأجيال الجديدة، ولا تزال هذه النسخ هي الأكثر انتشارًا حتى اليوم. علاقة فنية غير عادية
ورغم فارق السن، شكّلت العلاقة بين فيروز وزياد واحدة من أنجح الثنائيات الفنية في تاريخ الموسيقى العربية، إذ استطاع ابنهما تطوير صوتها وإعطاء مسيرتها اتجاهاً جديداً دون المساس بجوهرها.
وأكد شوشة أن زياد لم يكن مجرد ملحن، بل كان فنانًا شاملًا: «ملحن، موزع، موسيقي، ومفكر».
*البصمة المصرية الحالية
وأشار إلى أن زياد متأثر بشكل كبير بالموسيقى المصرية، التي يعتبرها أساس الموسيقى العربية بسبب موقعها الجغرافي وعدد سكانها ومكانة المصريين في القطاع الفني.
وأكد أن التأثير المصري كان حاضراً دائماً في الأعمال العربية، بما في ذلك أعمال زياد، حتى وإن امتزجت بطابع لبناني مميز.
*من الرومانسية إلى الواقعية
في التاسعة عشرة من عمره، شهد زياد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، حين انقسمت البلاد على أسس طائفية دامية. تركت هذه الأحداث ندوبًا عميقة في وجدانه، فتمرد على تفكير والديه الرومانسي الحالم، واختار نهجًا واقعيًا ساخرًا يعكس واقع المجتمع اللبناني المضطرب.
*المسرح كمنصة للنقد
بدأ زياد مسيرته المسرحية عام ١٩٧٣ بمسرحية “سهرية”. حافظ فيها على الأسلوب الرحباني الكلاسيكي في استخدام التاريخ كوسيلة لتقديم الأغنية. لكنه سرعان ما طوّر أسلوبًا جديدًا في المسرحيات الاجتماعية والسياسية يجمع بين السخرية والجرأة والنقد العميق.
في أعمال مثل “نزل السرور”، و”أما الغد فماذا؟” (1978)، و”فيلم أميركي طويل” (1980)، و”شيء ما فشل” (1983)، و”في الكرامة والشعب العنيد” (1993)، و”لولا مساحة الأمل” (1994)، استطاع التعبير عن مشاكل مجتمعه، وخاصة الطائفية السياسية والاجتماعية، بأسلوب يجمع بين السخرية والعاطفة.
برحيل زياد الرحباني، يفقد العالم العربي موسيقياً استثنائياً حوّل الموسيقى اللبنانية من ضباب الرومانسية إلى نور الواقعية، ومن الألحان الكلاسيكية إلى أصوات الحياة اليومية، تاركاً وراءه إرثاً فنياً يصعب تجاهله.