الدكتور محمد فتحي يكتب: كيف نربي أبناءنا على العدل في عالم غير عادل مليء بالظلم؟

منذ 4 ساعات
الدكتور محمد فتحي يكتب: كيف نربي أبناءنا على العدل في عالم غير عادل مليء بالظلم؟

يراقب أطفالكم ما يحدث في غزة، ويشهدون جرائم الحرب مباشرةً، ويتابعون معكم أخبار الحرب بين إسرائيل وإيران. ثم يُعبّرون عن غضبهم من هذا العالم الظالم، ويسخرون منكم عندما تُحدّثونهم عن قيم كالسلام والعدالة في عالم قاسٍ وظالم، حيث تسود شريعة الغاب. ماذا ستفعلون بهم؟ كيف ستُربّونهم على هذه القيم إذا شعروا أنها اختفت ولم تعد موجودة بينهم؟

إن السؤال سوف يؤلمك، ولكن من فضلك لا تفكر “أنت على حق، أقسم”، أو تقرر تركهم “لأنفسهم” وتكتفي بـ “ادعوا لهم أن يساعدهم الله”، لأن هذا سوف يعزز لديهم ما يسمى في علوم الاتصال بـ “متلازمة العالم القاسي”.

قبل أن أشارككم الحل من وجهة نظر خبراء في التربية وعلم النفس والاتصال ودراسات الإعلام، أود أن أتحدث عن جورج جيربنر، أحد أبرز أساتذة الإعلام. في ستينيات القرن الماضي، أطلق مشروع “مؤشرات العنف” لدراسة آثار العنف على الأطفال في التلفزيون الأمريكي. وقد أسفر بحثه المكثف في هذا الموضوع عن نظرية مهمة في نظرية الاتصال والإعلام، تُعرف باسم “نظرية التثقيف الثقافي”. يزعم جيربنر فيها أنه كلما طالت مدة تعرض المرء لوسائل الإعلام، زاد تأثره بصورة العالم كما تُقدمه، لا بواقعه! وعندما طُبقت هذه النظرية على الأطفال والمراهقين وعلى المواد (العنيفة) والبرامج (الأخبارية) التي يشاهدونها، اكتُشف أنهم جميعًا يعانون مما كان يُسمى آنذاك “متلازمة العالم القاسي”.

ينطبق هذا على الأطفال، وكثيراً على الكبار أيضاً، ما لم يتوفر وعي حقيقي وضروري وجوهري لدى الآباء وجميع العاملين في مجال الإعلام. إلا أن الأمر، كما يمكن القول، يتجاوز الإعلام، فما يحدث يتجاوز توقعات روايات الرعب، حتى أن بعض الكُتّاب والمؤلفين، وحتى القراء المخضرمين، بدأوا يقتبسون من روايات يعتقدون أنها تنبأت بالحدث. نظرة سريعة على وقائعنا تكشف عن كثيرين يتعاملون مع الموضوع بسخرية أو بتشريح أشبه بمباريات كرة القدم والأفلام. أطفالنا من بينهم، وعندما ينقشع الغبار – وهو حتماً سينقشع – مهما كانت النتائج والحسابات والمفاجآت في قوانين الحياة العجيبة والمعقدة – رغم كل شيء – حسب كل التوقعات، لن يبقى إلا جيل أطفالنا، الذي تأثر ثقافته، وغُرس فيه، في لاوعيه، وعيه الكامن والظاهر، كل ما يدفعه إلى السخرية من القيم المثالية والمطلقة كالعدالة والسلام والمحبة. فماذا نفعل إذن بالأشخاص الذين نسمع عنهم الآن؟ لا أزعم أن هذه هي الإجابة المثالية، لكنها محاولة مبنية على قراءة وتقارير بحثية وآراء متخصصين في مجالات التربية وعلم نفس الطفل والمراهق، وبالطبع مجال نظريتي في الإعلام والاتصال.

(١) كن واعيًا: اقرأ، وابحث، وانغمس في الإجابة، وفكّر في التعليم. أنت في السن المناسب لتعلم أن استخدام الأطفال لوسائل الإعلام يجب أن يكون مسؤولًا ومناسبًا لأعمارهم. هل أنت مُدرك لهذا؟ هل تعرف أيضًا ما تراه شخصيًا، بغض النظر عن تحيزاتك، وما إذا كان صحيحًا أم خاطئًا من حيث دقة المعلومات، أو من حيث الهدف والشغف (التنوع)؟ على الأقل، ابحث عن مصدر موثوق للمعلومات، واجرده من الحقائق، واستبعد أي شغف لفهم جوهر ما يحدث.

(٢) استمعوا لأطفالكم دون إشراف: اسمحوا لهم بالتعبير عن مشاعرهم بحرية، دون حرمانهم من هذا الحق. تدخّلوا فقط لتصحيح المعلومات. تفهّموا هذه المشاعر، ولا تستهينوا بها أو تسخروا منها، مهما بدت غريبة أو متطرفة. دعوهم يُعبّرون عن مشاعرهم ويستمعون بانتباه واحترام.

(٣) تذكروا – وذكّروا أبناءكم – أننا نتعلم ونربي ونُدرّب أنفسنا على قيم العدل والسلام لأن العالم يحتاج إليها، لا لأنه يُجسّدها. هذا دورنا: أن نسعى جاهدين لتطبيق هذه القيم – قدر استطاعتنا – في حياتنا وبين عائلاتنا ومعارفنا. فكما أن القيم المطلقة لا تتجسد إلا في الله عز وجل، فهو وحده العدل والسلام المطلق، ونحن جميعًا نسعى لتجسيد قيمه، لا سيما عند غيابها.

(4 لا تكذب: مهما حدث، لا تكذب عليهم. لا تخبرهم بالأكاذيب عن الأحداث ولا تفسرها تحت ستار حمايتهم. هذا ما يسميه المربون “الصدق مع التوجيه”. مهمتنا ليست إخفاء الواقع القاسي عن أطفالنا، بل تصفية ما يحدث، وتنظيم تعرضهم له وفقًا لأعمارهم، وتفسير ما يرونه على أنه حقيقي، والاسترشاد بالقيم التي نفتقر إليها لتعويض النقص عندما يتجلى في الجوار بشن الحروب وقتل الأبرياء.

(٥) ركّز على المبادئ لا على الأشخاص: يتغير الأشخاص، ويتغير التاريخ، لكن القيم تبقى. هنا، يُمكننا عرض أمثلة من التاريخ، ومن القصص، ومن كفاح ونضالات أفراد مُلهمين.

(6) مشيرًا إلى الجانب الآخر: “لماذا يحدث هذا في غزة؟ لأن هناك أشخاصًا ظالمين يستخدمون العنف ظلمًا، ولكن هناك أيضًا أشخاص يعارضونهم وآخرون يساعدون المظلومين، بما في ذلك بلدكم. إلى أي جانب تريد أن تكون؟”

(٧) حوّل الغضب إلى شفقة: أتفهم غضبك يا عزيزتي، ولكن ماذا عن مساعدة المظلوم؟ نتبرّع له، نرسل له رسالة، نتحدث إليه، نبحث عنه، وماذا عن البحث عن المظلومين من حولنا ومساعدتهم؟ (قد يكون هذا بداية لتعليمهم المشاركة الإيجابية من خلال التطوع والتبرعات وغيرها من الأنشطة الخيرية).

(8 كن قدوة: تخيل أنك تتحدث مع أطفالك عن العدالة، ولكنك غير عادل معهم! تتحدث عن السلام، ولكن في حياتك تكون غاضبًا وعنيفًا تجاههم أو تجاههم.

(9 تحدث معهم عن مصر: نعم. إنها فرصة مهمة لهم ليتعرفوا على أهمية البلد الذي ينتمون إليه ومدى أمانه ونصرته للمظلومين. هذا الشعور الإنساني متأصل في المصريين على مر التاريخ، بغض النظر عن ظروفهم وحاكمهم. إنها فرصة لهم ليعرفوا حقًا عظمة مصر والمصريين، دون التقليل منهم أو المبالغة فيهم، ودون أن تقودك عاطفتك السياسية إلى انتقاد الناس أو النفاق تجاههم.

(١٠) ثلاث لاهات مهمة: لا تُعاملوهم كأطفال. لا تُشعروهم باليأس والعجز. لا تربطوا القيم بالنصر الفوري، فتحوّلوا القضية إلى الأهلي والزمالك.

قد تكون هذه نقطة انطلاق مهمة لجهود التثقيف الأسري، إلا أن للآباء دورًا أكبر، بدءًا من اهتمامهم بتربية أبنائهم، وهو ما يُعرف بتثقيف الوالدين. هل الآباء مستعدون للقيام بذلك؟ هل يدركون أهمية تعليم ثقافة أخرى، وهو ما ينبغي عليهم السعي إليه؟

بشكل عام، إذا كانت هذه هي البداية، فهناك نصائح مهمة للتطبيق:

أولاً، ميّز بين الخطاب حسب العمر: يميل الأطفال دون سن السابعة إلى التمييز بين الأبيض والأسود. لا ينبغي أن يتعرضوا لنفس المواد التي يتعرض لها آباؤهم. لذا، من فضلكم توقفوا عن “إثقالهم” بمتلازمة العالم القاسي. كلما كبر الطفل، ازداد وعيه، ولكن كلما تعرض لوسائل إعلام تركز على هذه الرسائل، ازداد “إثقالهم” بها على المدى الطويل.

ثانياً، استخدام التاريخ والقصص والكتب واستخدام هذه المصادر بذكاء كمصادر للوعي والفهم والإدراك للعالم من حولنا، ولكن بشكل مناسب للفئة العمرية.

ثالثًا، يجب ألا ننسى أننا نربي أطفالنا ليكونوا أنفسهم، لا أن يكونوا أنفسهم. لذلك، نربيهم على تحليل الواقع والقيم الأخلاقية، لا وفقًا لرؤيتنا الخاصة أو صورة غير واقعية. يعتقد باولو فريري أن على الطفل إدراك الواقع وتحليله، لا عزل نفسه عنه. وبالتالي، يسعى الطفل إلى التغيير، لا الانهزامية. من أقوال فريري العظيمة: “التربية الحقيقية تُمكّن الإنسان من إدراك الظلم ومقاومته، وتجنب التعايش معه”.

رابعًا، تذكر أن التعليم تشاركي، كما تسميه الدكتورة ميرفت الديب. وأن التربية الأخلاقية ترتكز على نظريات نمائية يجب فهم أسسها. يرى كولبرج، على سبيل المثال، أن الطفل لا يتعلم القيم من بيئته فحسب، بل أيضًا من النماذج والمواقف التربوية. في مرحلة متقدمة، يبدأ الطفل بإدراك أن العالم ليس مثاليًا كما كان يظن وكما رآه من خلال عيون الطفل ووالديه. ومع ذلك، فبسبب تربيته، سيختار القيم التي نشأ عليها لأنها حقه الأصيل، وليس بسبب طبيعة العالم. لذلك، سيؤمن تلقائيًا بنفس الأشياء التي علمه إياها آباؤه منذ البداية، وهي نفسها التي بدأنا بها هذه المقالة.

في الواقع، لا أملّ من تكرار مدى حاجتنا الماسة إلى مشروع وطني للأطفال. فالاستثمار في المستقبل يبدأ بالأطفال، فهم يصبحون ضرورةً للأمن القومي يومًا بعد يوم. “إذا أردنا تحقيق سلام حقيقي في العالم، فعلينا أن نبدأ بالأطفال”. وكما قالت ماريا مونتيسوري، مؤسسة المنهج الشهير: “منع الصراعات مهمة سياسية، بينما بناء السلام الحقيقي مهمة تعليمية”. يستحق أطفال مصر مشروعًا تعليميًا وطنيًا حقيقيًا.

وأخيرا، لا يتعلم أطفالنا العدالة عندما يكون العالم عادلا، بل عندما يدركون أن العالم يحتاج إلى العدالة ويحاربون الظلم – ضد كل ظلم.


شارك