كوريا الجنوبية لا الشمالية.. لماذا غير أحمد الشرع البوصلة؟

منذ 7 ساعات
كوريا الجنوبية لا الشمالية.. لماذا غير أحمد الشرع البوصلة؟

وفي رسم كاريكاتوري متداول على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر أحمد الشرع، الرئيس السوري المؤقت، كبطل طويل القامة ملتح يصافح الدبلوماسيين. وفي رسم آخر، يمكن رؤية الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون صغيرا ومرتبكا في الخلفية.

وزعمت رواية صحفي سوري معروف أن هذه الرسوم نشرت في صحف كورية جنوبية. لقد حاولنا في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تتبع مصدر الصور، ولكننا لم نتمكن من العثور عليها منشورة في أي من الصحف الكورية التي تمكنا من مراقبتها. الصورة ساخرة وخيالية، لكنها تعكس الواقع الذي تعيشه سوريا اليوم – سوريا بعد الأسد. بعد تحالف طويل الأمد مع كوريا الشمالية، ظهرت علامات شراكة غير مسبوقة مع كوريا الجنوبية.

صورة-1_1

“مشهد من رواية تجسس دبلوماسي”

في 10 أبريل/نيسان 2025، زار وزير الخارجية الكوري الجنوبي تشو تاي يول دمشق. ووصفت صحيفة كوريا جونغ آنغ ديلي الزيارة بأنها “تشبه مشهدا من رواية تجسس دبلوماسية”، مشيرة إلى الطبيعة المفاجئة والسرية للزيارة، التي لم يتم الكشف عن تفاصيلها إلا بعد انتهائها.

واعتُبرت الزيارة، التي تضمنت أيضاً لقاءات مع الرئيس المؤقت أحمد الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، خطوة غير تقليدية ذات أهمية استراتيجية واضحة بالنسبة لكل من سيول ودمشق.

وبالنسبة لكوريا الجنوبية، كانت هذه الخطوة بمثابة خطوة إلى الأمام في جهودها لعزل كوريا الشمالية دبلوماسيا. ودمشق هي الدولة العضو الأخيرة في الأمم المتحدة التي لا تربطها علاقات دبلوماسية بسيول، باستثناء كوريا الشمالية بالطبع.

أما بالنسبة لسوريا، فهذه هي المرة الأولى منذ ستينيات القرن الماضي التي تحول فيها البلاد بوصلتها السياسية نحو كوريا الجنوبية، مما يعكس تحولاً جذرياً في سياستها الخارجية.

ويمكن لحكومة الشرع أن تستفيد من هذا التقارب، إذ يمكنها الاستفادة من خبرة كوريا الجنوبية في إعادة بناء الدولة وإعادة بنائه.

أدت الحرب الكورية (1950-1953) إلى تقسيم شبه الجزيرة الكورية، وأودت بحياة مئات الآلاف، ودمرت البنية الأساسية في الجنوب بالكامل تقريبًا. ولكن ما تلا ذلك كان أكثر إثارة للدهشة؛ في غضون بضعة عقود فقط، تطورت كوريا الجنوبية من واحدة من أفقر دول العالم إلى قوة اقتصادية وتكنولوجية معترف بها عالميًا.

وفي أعقاب الزيارة إلى دمشق، قال مسؤولون في وزارة الخارجية الكورية الجنوبية إن بلادهم مستعدة لدعم جهود إعادة الإعمار في سوريا، وخاصة في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والمعلومات، حسبما ذكرت صحيفة كوريا هيرالد.

ومن خلال المشاركة في جهود إعادة الإعمار في سوريا، ستتاح للشركات الكورية الفرصة لدخول سوق جديدة واعدة في مجالات الطاقة والبناء والتكنولوجيا، وتعزيز حضور كوريا الجنوبية كفاعل اقتصادي وإنساني في الشرق الأوسط.

ولكن الحذر مطلوب في ما يتصل بكوريا الجنوبية، كما يشير جانج جي هيانج، مدير مركز الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد آسان للدراسات السياسية في سيول.

وورد أن الشرع هو الزعيم السابق لهيئة تحرير الشام المعروفة بجذورها المتطرفة. وأضاف الباحث في تصريح لصحيفة كوريا تايمز: “لكن يبدو أن الشرع يحاول تعديل خطابه السياسي، ووعد بنظام يحترم الأقلية الشيعية (العلوية) في سوريا”.

وأوصت بعض الصحف الكورية، بما في ذلك صحيفة كوريا هيرالد وجونج آنج إلبو، باتباع “نهج حذر” في التعامل مع الشرع وحكومته نظراً للوضع المتقلب في سوريا ومستقبل النظام الانتقالي الذي لا يزال غير مؤكد.

ووصفت وزارة الخارجية الكورية الجنوبية هذا التطور بأنه “بداية فصل جديد من التعاون”، وأكدت أن الحكومة السورية الجديدة تنظر إلى كوريا الجنوبية باعتبارها “شريكا استراتيجيا لإعادة الإعمار”.

غادر دبلوماسيون من كوريا الشمالية سوريا فور سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024. وذكرت وكالة الأنباء الروسية الرسمية، نقلاً عن وزارة الخارجية، أنه في 15 ديسمبر/كانون الأول، أقلعت طائرة تابعة للقوات الجوية تقل دبلوماسيين من روسيا وبيلاروسيا وكوريا الشمالية من قاعدة حميميم الجوية السورية.

صورة 2_2

إعادة ترتيب الأوراق

منذ سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024، ابتعدت الحكومة الانتقالية السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع عن كوريا الشمالية وسعت إلى إقامة علاقات رسمية مع كوريا الجنوبية.

وهذا التحول رائع.

منذ سبعينيات القرن العشرين، حافظت سوريا، بقيادة حافظ الأسد، على علاقات وثيقة مع كوريا الشمالية. وهذا التحالف نشأ في سياق الحرب الباردة، وتداخلت فيه الأيديولوجيات والمصالح.

في ذلك الوقت، كان كيم إيل سونغ، مؤسس كوريا الشمالية وزعيمها الوحيد، ينادي بأيديولوجية جوتشي التي تمجد الاستقلال وتعارض الغرب. وهذا ما دفعه إلى السعي إلى توثيق العلاقات مع الأنظمة القومية أو الاشتراكية المماثلة، وخاصة النظام السوري.

بالنسبة لكوريا الشمالية، كانت سوريا دائما أكثر من مجرد شريك دبلوماسي مؤقت. وكانت دمشق تشكل مركزاً استراتيجياً في الشرق الأوسط، على غرار ما كانت عليه كوبا في أميركا اللاتينية. ومن خلال هذا التحالف المستمر منذ عقود، وجدت بيونج يانج صوتاً في سوريا يعارض الهيمنة الأميركية، وشريكاً تتقاسم معه خطاباً أيديولوجياً مشتركاً، وتحالفات عسكرية سرية، ووفقاً للشائعات، مشاريع أكثر حساسية مثل بناء المنشآت النووية.

لكن مع سقوط نظام بشار الأسد في نهاية عام 2024، انقلبت الأوراق رأساً على عقب. وفقاً للدكتور إدوارد هويل، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أكسفورد.

وقال الأستاذ الجامعي لبي بي سي عربي إن هذا التطور يمثل “ضربة مؤلمة” لكوريا الشمالية، ليس فقط على مستوى التحالف السياسي، بل أيضاً على مستوى نفوذها العالمي المتبقي “الذي يتآكل بهدوء”.

ويقول هاول إنه على الرغم من صمتها الرسمي وافتقارها إلى التعليق على هذه التطورات – كما فعلت مع كوبا عندما أقامت علاقات مع كوريا الجنوبية في فبراير/شباط 2024 – فإن النظام الكوري الشمالي يتعامل مع هذا التحول في الأحداث “بقلق محلي كبير، حتى لا يعرض الجمهور المحلي الخسارة التدريجية لحلفائه التاريخيين”.

صورة 3_3

التعاون النووي؟

ويشير إلى أن التعاون بين دمشق وبيونغ يانغ لم يقتصر على الدعم الخطابي أو العسكري التقليدي، بل اتسع ليشمل مشاريع أكثر سرية، وخاصة في مجال التكنولوجيا النووية ــ وهو النمط الذي وصفه هاول بأنه “نموذجي للسلوك الكوري الشمالي”.

في عام 2007، قصفت إسرائيل منشأة في الكبر بدير الزور، والتي ادعت أنها كانت “منشأة نووية سرية”. وأظهرت التحاليل أن تصميم المحطة كان مطابقا تقريبا لمفاعلات كوريا الشمالية.

ونفت سوريا دائما أن تكون المنشأة التي تعرضت للقصف مفاعلا نوويا.

ويعتقد هاويل أن دور كوريا الشمالية في هذا المشروع كان بوضوح توفير المعرفة الفنية والخبرة، حتى لو لم تقم البلاد بتصنيع المكونات بشكل مباشر.

يتناول هاول تعاملات كوريا الشمالية مع بلدان أخرى، وخاصة فيما يتصل بالتكنولوجيات الحساسة مثل الطاقة النووية.

ويقول إن كوريا الشمالية لا تقدم مساعداتها مجانًا، بل هي دولة تعتمد على استراتيجية “أعط القليل، خذ الكثير”. وهذا يعني أنهم يقدمون خدمات أو خبرات محدودة (مثل التصميم أو المشورة الفنية) ولكنهم يسعون إلى الحصول على مزايا استراتيجية كبيرة في المقابل، مثل الدعم السياسي أو المال أو المعلومات التكنولوجية.

وفي هذا السياق، يشير إلى أن عام 2006 كان عاماً حاسماً بالنسبة لكوريا الشمالية، حيث أجرت البلاد تجربتها النووية الأولى. ولكنها لم تكن تجربة ناجحة تماما. ولهذا السبب، كان من مصلحة بيونج يانج في ذلك الوقت الدخول في شراكات نووية سرية (مثل تلك التي يُزعم أنها موجودة مع سوريا) من أجل تطوير برنامجها النووي بشكل أكبر من خلال تبادل المعرفة والخبرة.

صورة 4_4

الدعم العسكري “القديم والمحدد”

وفيما يتعلق بالشائعات حول مشاركة جنود من كوريا الشمالية في حرب أكتوبر 1973، قال الدكتور هاول إن الأدلة غير قاطعة، ولكن ليس من المستبعد.

ويشير ذلك إلى سلوك مماثل تنتهجه كوريا الشمالية في صراعات مثل الحرب الأهلية في أنغولا. وأرسلت عددًا محدودًا من الجنود لدعم الجانب الشيوعي. ويعتقد أن هذا ينطبق أيضاً على سوريا، حيث يعتقد أنه قد يكون هناك مستشارون أو دعم دفاعي كجزء مما يسميه “سياسة الحرب الباردة”، حيث تسعى كوريا الشمالية إلى دعم أي شخص يعارض النفوذ الأميركي في المنطقة.

واللافت للنظر في تصريح هاول هو اعتقاده بأن كوريا الشمالية وسوريا ــ مثل إيران ــ تشتركان ليس فقط في المصالح العسكرية، بل وأيضاً في “العداء المشترك للإمبريالية الأميركية”، وهي الرواية التي استخدمتها هذه البلدان لتبرير تحالفها وسياساتها تجاه شعبيها. لكن رغم استمرار حضوره في وسائل الإعلام الكورية الشمالية، فإن هذا الخطاب لم يعد قادراً على الصمود في وجه الواقع الجيوسياسي الجديد، الذي يحمل معه تغيرات سريعة، بما في ذلك انفتاح سوريا على كوريا الجنوبية.

ويخلص هاول إلى أن بيونج يانج، في حين تشعر بالقلق إزاء نفوذها الخارجي، تركز الآن على أولويتين رئيسيتين: ضمان بقاء نظامها والاعتراف الدولي بها كقوة نووية.

وأضاف: “قد تكون كوريا الشمالية منزعجة من التغييرات بين حلفائها، لكنها لن تكشف عن ذلك لأن ما لا يقال في وسائل الإعلام أهم مما يُعلن عنه”.

الصورة 5

لماذا التحول من الشمال إلى الجنوب؟

ويحاول الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع الآن أن يقدم نفسه مرة أخرى كزعيم مدني وطني وليس كزعيم لفصيل مسلح. ويبدو أن الحكومة الانتقالية في دمشق تنظر إلى قطع التحالف مع كوريا الشمالية باعتباره خطوة نحو اكتساب الشرعية الدولية.

منذ الثامن من ديسمبر/كانون الأول، التقى الشرع ووزير خارجيته مع عدد كبير من السياسيين الغربيين. والتقى المسؤولون بمسؤولين من وزارة الخارجية البريطانية وممثلين عن الاتحاد الأوروبي. كما استقبل دبلوماسيون فرنسيون في باريس الوفد السوري في لقاء غير رسمي لكنه “إيجابي”. كما عقدا اجتماعا رفيع المستوى مع وزير الخارجية الكوري الجنوبي تشو تاي يول في دمشق.

وتظهر هذه اللقاءات السريعة بوضوح رغبة الحكومة السورية الجديدة في كسر عزلتها السياسية.

وبالنسبة لدمشق، يمثل الانفتاح على كوريا الجنوبية خطوة استراتيجية لتعزيز شرعية الحكومة الانتقالية على الساحة الدولية، وخاصة بعد سنوات من العزلة والعلاقات الوثيقة مع النظام الكوري الشمالي. إن إقامة علاقات مع دولة ديمقراطية وتقدمية مثل كوريا الجنوبية يرسل رسالة واضحة مفادها أن سوريا تسعى إلى تغيير سياسي واقتصادي بالطبع.

إن تعهدات كوريا الجنوبية بتقديم المساعدات الإنسانية، بما في ذلك الأرز والإمدادات الطبية، فضلاً عن التزامها بمجالات مثل البنية التحتية والتكنولوجيا، تفتح أبواباً حقيقية لإعادة إعمار البلاد وتمنح دمشق فرصة للانفصال عن إرث النظام السابق وتحرير نفسها من إرث الأسد وكيم جونج أون.

وأشارت وسائل إعلام سورية رسمية مثل وكالة الأنباء السورية (سانا) إلى أن هذا الحدث يشكل خطوة مهمة نحو تعزيز العلاقات الثنائية وفتح آفاق جديدة للتعاون في مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والتعليم. وأشارت إلى أن هذه الخطوة تأتي في إطار انفتاح الحكومة الجديدة في دمشق على المجتمع الدولي وتسليط الضوء على حضورها الذي كان مفقوداً في ظل النظام السابق.

وتناولت بعض وسائل الإعلام المستقلة، مثل قناة سوريا، الحدث من منظور تحليلي، مشيرة إلى أن هذه الخطوة تعكس تحولاً في السياسة الخارجية السورية نحو المصالح الاقتصادية. كوريا الجنوبية مستعدة لدعم إعادة الإعمار وتوسيع المساعدات لتحسين فرص التنمية الاقتصادية.

على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية أو تمثيل رسمي بين سوريا وكوريا الجنوبية، فقد حدث بعض التبادل التجاري في العلاقات الاقتصادية بين البلدين في السنوات الأخيرة.

وفي عام 2021، بلغت الصادرات الكورية الجنوبية إلى سوريا حوالي 51.7 مليون دولار، معظمها سيارات وإلكترونيات، في حين بلغت الواردات من سوريا إلى كوريا الجنوبية حوالي 65 ألف دولار فقط، وشملت سلعاً محدودة فقط مثل القطن والألياف الطبيعية، بحسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الكورية. ويعكس هذا النشاط التجاري المحدود وجود قنوات غير رسمية للتبادل الاقتصادي على الرغم من الانقسام الدبلوماسي المستمر منذ عقود من الزمن.


شارك