مفتى الجمهورية فى حوار لـ«الشروق»: الذكاء الاصطناعى لا يملك الأهلية لإصدار الأحكام الشرعية أو تقديم فتاوى نهائية

منذ 3 ساعات
مفتى الجمهورية فى حوار لـ«الشروق»: الذكاء الاصطناعى لا يملك الأهلية لإصدار الأحكام الشرعية أو تقديم فتاوى نهائية

إطلاق “وثيقة القاهرة” كأول مرجع عالمي ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي في الفتاوى. – الفتوى ليست جواباً نصياً أو معلومة من قاعدة بيانات، ولا يمكن استبدال البشر بالآلات في إصدار الفتاوى. ليس من الضروري أن ننكر هويتنا من أجل مخاطبة الآخرين، لكن يجب علينا تحسين خطابنا من خلال لغة عقلانية ومنفتحة وإنسانية.

 

أعلن مفتي الديار المصرية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، الدكتور نذير محمد عياد، عن إصدار “وثيقة القاهرة للذكاء الاصطناعي والفتوى”، وهي أول مرجع عالمي يُنظّم استخدام هذه التقنية في الشؤون الدينية. وأكد أن الفتاوى لا يمكن اختزالها في مجرد نتائج رقمية من قواعد البيانات.

وأوضح عياد في حواره مع «الشروق»، أن المؤتمر الدولي العاشر للإفتاء، الذي يعقد يومي 12 و13 أغسطس/آب الجاري تحت عنوان «صناعة المفتي الصالح في عصر الذكاء الاصطناعي»، يمثل نقلة نوعية في التعامل مع التغيرات التكنولوجية، ويهدف إلى صياغة نموذج عالمي للمفتي يجمع بين الأسس الدينية والوعي التكنولوجي والإنساني.

إلى نص الحوار..

< ما هي دلالات عنوان مؤتمر هذا العام “تعيين المفتي الصالح في عصر الذكاء الاصطناعي”؟

يُمثل الذكاء الاصطناعي نموذجًا جديدًا في إنتاج المعنى والمعرفة. لذا، كان لا بد من إعادة تعريف دور المفتي في ظل هذه التحولات. ومن هنا جاءت فلسفة عنوان المؤتمر وموضوعه: إعادة تعريف “الإرشاد الفتوي” – ليس كمجرد مرادف للحفظ أو المعرفة النصية، بل كحالة وعي مُركّبة تشمل أبعادًا دينية وعملية وتقنية وإنسانية. نهدف من خلال هذا المؤتمر إلى تطوير نموذج للمفتي الحكيم يجمع بين أساس شرعي متين وقدرة على التعامل مع بيئة رقمية حافلة بالتحديات والفرص. كما نهدف إلى تمكين مؤسسات الفتوى رقميًا، ليس فقط من خلال التفاعل، بل أيضًا من خلال المبادرة إلى تطوير أدوات ومؤشرات تقيس الأثر وتساهم في الحوكمة الرشيدة. كما نهدف إلى إرساء أطر أخلاقية للتعامل مع الذكاء الاصطناعي، لا سيما في ظل ظهور الفتاوى الآلية والخوارزميات التي قد تنطوي على تحيزات.

ما المقصود بـ”المفتي الصالح”؟ وما هي المهارات الجديدة التي يجب أن يتحلى بها المفتي ليكون فاعلاً؟

النضج قيمةٌ تجمع بين الأصالة والحداثة، والمعرفة والحكمة، والفهم والرحمة. لم يكن اختيار مصطلح “رشيد مفتي” قرارًا لغويًا أو تسويقيًا، بل كان اختيارًا مفاهيميًا عميقًا نابعًا من رؤية دينية تتجاوز الانبهار بالتكنولوجيا، وتسعى إلى بناء روح فتوى متوازنة تجمع بين الشريعة الإسلامية والحداثة. لا نريد مفتيًا يجيد التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي، بل مفتيًا يُرشد استخدامها بتقوى وبصيرة وعزيمة واهتمام. في القرآن الكريم، لا يعني البلوغ مجرد النضج الفكري، بل هو حالة من التوازن والتكليف الشرعي. وفي هذا السياق، قال الله تعالى: ﴿فَإِن رَأَيْتُمُوهُنَّ رُشُودًا فَآتُوهُنَّ أَمْوَالَهُنَّ﴾ [النساء: 6]. وهذا يدل على أن البلوغ شرطٌ للتصرف في المال، فكيف لا يكون شرطًا للتصرف في الدين والإفتاء؟ لذا، لا يكفي “مفتي رقمي” مُلِمٌّ بأدوات التحليل والرد المتاحة عبر التطبيقات، ولا “مفتي عصري” مُواكب للتطورات المتسارعة. بل نحتاج إلى “مفتي عاقل” يُوازن بين المقاصد والمصالح، ويُقدّر العواقب الشرعية، ويُدرك أثر الفتاوى على الفرد والمجتمع والدولة.

< كيف تقوم مؤسسات الإفتاء بإعداد جيل من المفتين القادرين على إصدار الفتاوى الرقمية بشكل منهجي؟

ينبغي على مؤسسات الفتوى اعتماد منهجية تدريب شاملة قائمة على مبادئ شرعية سليمة، وفهم شامل للفقه وآثاره، وتدريب عملي على استخدام أدوات التكنولوجيا الحديثة. يُعدّ دمج التكنولوجيا في تدريب الفتوى مفيدًا، ولكنه لا يُغني عن المراجع الأكاديمية. فهو يُسهم في توفير نماذج تدريبية تُحاكي بيئة الفتوى الرقمية، وتُساعد في تحليل الأسئلة وتتبع السياق. علاوةً على ذلك، من الضروري تعزيز الوعي الأخلاقي والمهني للمفتين الجدد من خلال قواعد سلوك واضحة وإشراف علمي مستمر، مما يحول دون انزلاقهم إلى فتاوى سطحية تحت ضغط المنابر أو رغبةً في التميز. ويكتمل هذا الوضع بالاستفادة من التجارب الدولية الناجحة في إعداد المفتين لتبادل الخبرات وتطوير نماذج عالمية تراعي التنوع الثقافي وتتوافق مع الضوابط الشرعية الإسلامية.

هل يمكن للفتاوى الآلية أن تحل محل الفتاوى البشرية؟ هل لدى دار الإفتاء أي تجارب أو محاولات لتغذية الذكاء الاصطناعي بمعلومات دقيقة؟

لا يمكن للفتاوى الآلية أن تحل محل الفتاوى البشرية. فالفتوى ليست مجرد ردّ نصي أو معلومات مُستخرجة من قاعدة بيانات، بل هي عملية اجتهاد مُعقدة. وتتطلب عقلاً بشرياً ماهراً قادراً على فهم النصوص الإسلامية في ضوء الواقع المُتغير، ودراسة مقاصدها، وتقدير عواقبها. والذكاء الاصطناعي لا يستطيع استيعاب هذه القضايا بشكل شامل. من الناحية القانونية، ثمة قيود على استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الفتاوى. يُمكن استخدام الذكاء الاصطناعي كمساعد ذكي يُساعد المفتي على جمع المعلومات، وتحليل الأسئلة، وتنظيم الفتاوى. إلا أنه غير قادر على إصدار الأحكام الشرعية أو تقديم فتاوى قاطعة، مما يضمن الحفاظ على القيمة الإنسانية والأخلاقية لصناعة الفتوى.

< هل من الممكن إصدار «ميثاق فتوى رقمي» يحدد قواعد الفتوى في عصر الذكاء الاصطناعي؟

تستعد الأمانة العامة لهيئات ومؤسسات الإفتاء حول العالم حاليًا لنشر دليل عالمي لتدريب المفتين المسؤولين في عصر الذكاء الاصطناعي. يتضمن الدليل المعايير الشرعية، والكفاءات الرقمية والأخلاقية اللازمة، وأدوات لمواجهة تحديات العصر الرقمي. كما نستعد لنشر “وثيقة القاهرة للذكاء الاصطناعي والفتوى”، وهي أول وثيقة شاملة عالميًا تُنظّم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الفتوى. وتتناول الوثيقة هذه الظاهرة باعتبارها تهديدًا مباشرًا للإيمان والدين والوعي العام، لا سيما في ظل تنامي قدرة الذكاء الاصطناعي على إنتاج محتوى مُزيّف (نصوص، ومقاطع صوتية، وصور) يُمكن نسبه زورًا إلى علماء أو مؤسسات مرموقة.

< ما هو موقع هذه الوثيقة على خارطة التحولات الفتوية في العالم الإسلامي؟

وثيقة القاهرة للفتاوى الحكيمة ليست مجرد بيان ختامي صدر في مؤتمر ثم أُبقي طي الكتمان. بل هي وثيقة مرجعية تُنظّم ممارسة الفتوى عالميًا وفقًا لقواعد العلم والضمير. وهي ثمرة نقاشات مستفيضة بين علماء الشريعة وصانعي السياسات الدينية، وبين ممارسي الفتوى وخبراء التكنولوجيا، وبين السلطات الدينية الوطنية والمنظمات العابرة للحدود. سيُجسّد هذا المشروع نقلة نوعية في الفقه المؤسسي، إذ يتناول التحديات الراهنة، من الفتاوى على وسائل الإعلام الرقمية إلى قضايا التلاعب بالمعلومات والسلطة الرمزية في المجال العام. كما يُمثّل محاولة لصياغة “ميثاق أخلاقي” للفتاوى العقلانية، قائم على معايير التحقق والسلطة والتخصص، يجمع بين أصالة الفقه وانفتاحه على المعايير الدولية للخطاب الديني المسؤول.

< ما هي مميزات مركز الليث بن سعد لفقه التعايش المزمع إنشاؤه في إطار المؤتمر؟

إن افتتاح مركز الإمام الليث بن سعد لفقه التعايش ليس مجرد ابتكار إداري لمركز بحثي جديد، بل هو منصة معرفية مستوحاة من التراث المصري الأصيل في التعددية والتعايش، تُقدمه للعالم من خلال منظور فقهي. وقد اختير اسم الإمام الليث بن سعد لأهميته العلمية والتاريخية، إذ جسد، كعالم مصري، فقه التسامح والانفتاح، ووسّع نطاق عمله القائم على المصلحة العامة واحترام الأخلاق. يهدف المركز إلى تقديم فقه يُعلي من شأن “فقه الواقع التعددي”. ويعتمد في ذلك على قراءة مُركّزة تُواكب التحديات المعاصرة، من قضايا الهجرة والاندماج إلى العنف الديني وخطاب الكراهية. ويأتي ذلك في لحظة دولية حرجة تتطلب تطوير خطاب ديني مُؤسّسي يتجاوز مجرد ردود الفعل، ويبادر إلى طرح رؤية عالمية قائمة على العدالة والكرامة والاعتراف بالآخر.

< كيف يمكن لمؤسسة فتوى وطنية أن تصوغ خطابا ذا دلالات عالمية؟

هذا سؤالٌ جوهري. نحن في دار الإفتاء المصرية نؤمن بأن الهوية المحلية القوية أساسٌ لتأثير عالمي راسخ. لسنا مضطرين لإنكار هويتنا لجذب الآخرين، بل علينا أن نُحسّن خطابنا بلغة عقلانية ومنفتحة وإنسانية. ومن خلال الأمانة العامة والمنصات الرقمية والوثائق الدولية التي نصدرها، تمكنا من بناء جسر حقيقي بين الفتاوى والمؤسسات الدولية، وبين المنطق العلمي وحقوق الإنسان، وبين الشريعة وقيم السلام والتعايش. نحن لا نصدر فتوى، بل نقدم للعالم الإسلامي نموذجاً سليماً للتعامل مع الدين في العصر الحديث.


شارك