قانون أوروبا الأخضر في مهبّ الغاز القطري

منذ 12 ساعات
قانون أوروبا الأخضر في مهبّ الغاز القطري

في الأسبوع الماضي، ظهر خبرٌ مثيرٌ يُشير إلى توتراتٍ بين الدوحة وبروكسل. وتنبع هذه التوترات من تحذيرٍ قطريٍّ من إمكانية تحويل صادرات الغاز الطبيعي المسال القطرية إلى أسواقٍ بديلةٍ إذا لم يُعدِّل الاتحاد الأوروبي لائحةَ العناية الواجبة باستدامة الشركات (CSDDD)، المُعتمَدة رسميًا في يونيو/حزيران 2024.

ويثير هذا التحذير، بنبرته التصعيدية، تساؤلات جوهرية حول مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الجانبين، وخاصة فيما يتصل بقضية الطاقة، التي تشكل ركيزة استراتيجية للأمن الأوروبي.

البدائل الرافضة: رسالة رسمية وتحذير صريح

وفي رسالة إلى الحكومة البلجيكية بتاريخ 21 مايو/أيار، ردت قطر، ممثلة بوزير الطاقة سعد الكعبي، على توجيه العناية الواجبة الصادر عن الاتحاد الأوروبي، والذي يتطلب من الشركات الكبرى الكشف عن قضايا حقوق الإنسان والبيئة ومعالجتها في سلاسل التوريد الخاصة بها.

“وببساطة، إذا لم يتم إجراء أي تغييرات أخرى على توجيه CSDDD، فلن يكون أمام دولة قطر وقطر للطاقة خيار سوى النظر بجدية في أسواق بديلة خارج الاتحاد الأوروبي لبيع الغاز الطبيعي المسال والمنتجات الأخرى في بيئة عمل أكثر استقرارا وترحيباً”، بحسب الرسالة التي نشرتها رويترز.

لا يبدو أن هذه هي المرة الأولى التي تُرسل فيها قطر رسالة مماثلة. فقد أكد متحدث باسم المفوضية الأوروبية لرويترز أن المفوضية تلقت رسالة أخرى من قطر في 13 مايو/أيار. وجاء فيها أن الأمر متروك الآن للدول الأعضاء والمشرعين “للتفاوض على التغييرات الأساسية للتبسيط التي اقترحتها المفوضية واعتمادها”. وكانت بروكسل قد اقترحت بالفعل تأجيل تطبيق القانون إلى منتصف عام 2028 وتخفيف بعض متطلباته.

ما هو قانون العناية الواجبة ولماذا ترفضه قطر؟

تتطلب لائحة العناية الواجبة، التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي رسميًا في يونيو 2024، من الشركات الكبرى، وخاصة تلك العاملة في قطاعات رئيسية مثل الطاقة، التحقق من أن سلاسل التوريد الخاصة بها تتوافق مع معايير صارمة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وظروف العمل وحماية البيئة.

يُلزم القانون هذه الشركات باتخاذ تدابير عملية لمنع الانتهاكات البيئية والاجتماعية في شبكاتها العالمية. وإلا، فإنها ستواجه غرامات تصل إلى خمسة بالمائة من إجمالي مبيعاتها السنوية. ومن المقرر أن يدخل القانون حيز التنفيذ تدريجيًا اعتبارًا من عام ٢٠٢٧. وترى الدول المصدرة للغاز، مثل قطر، أن هذا يُشكل عبئًا قانونيًا وماليًا يُهدد استدامة علاقاتها مع السوق الأوروبية.

على ماذا يرتكز التهديد القطري؟

ويرى الخبير القطري في مجال الطاقة عبد العزيز الدليمي أن القانون الأوروبي الجديد المعروف باسم “لائحة العناية الواجبة” يشكل تحدياً كبيراً لصادرات قطر من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا، وقد يدفع الدوحة إلى إعادة النظر في استمرار إمداداتها إلى القارة.

في مقابلة مع بي بي سي نيوز عربية، صرّح الدليمي بأن هذا القانون سيُحمّل قطر أعباءً ماليةً جسيمةً، ليس فقط على شركة قطر للطاقة، بل على جميع المعنيين بتوسيع البنية التحتية لإنتاج الغاز، بمن فيهم المقاولون والشركات المُشغّلة. وأضاف: “إذا طُبّق القانون بصيغته الحالية، فقد تُصبح صادرات الغاز إلى أوروبا غير مُجدية اقتصاديًا، بل قد تُسبّب خسائر مُباشرةً للدوحة، وهو أمرٌ غير مقبولٍ تجاريًا واستراتيجيًا”. وجادل بأنه من الناحية الاقتصادية، لن يُسمح لقطر بتصدير الغاز إلى أوروبا إذا كانت نتائجها المالية سلبيةً بسبب الغرامات، مُضيفًا: “هذا واقعٌ غير منطقي”.

عندما سُئل عما إذا كانت تهديدات قطر مجرد وسيلة ضغط، أكد الدليمي أن الدوحة قد تلجأ بالفعل إلى تجميد الإنتاج إذا أصر الاتحاد الأوروبي على تطبيق القانون بصيغته الحالية. وأشار إلى أن قطر لا تعارض المفاوضات الرامية إلى تحسين فعالية تدابير خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، لكنها ترفض العقوبات المالية المشروطة. وتوقع أن تُفضي المفاوضات إلى حلول تقنية أو بيئية، لكن هذا يتطلب إرادة سياسية مشتركة، على حد قوله.

هل يمكن أن يؤدي هذا النزاع إلى أزمة طاقة في أوروبا؟

ورغم أن تهديد قطر بتحويل صادرات الغاز لا يعني بالضرورة انقطاعاً فورياً في إمدادات أوروبا، فإنه يكشف عن هشاشة اعتماد أوروبا على الشركاء الخارجيين في لحظة حاسمة في التحول في مجال الطاقة.

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وتراجع الإمدادات الروسية، لجأت أوروبا إلى الغاز القطري كبديل استراتيجي لا يُمكنها التخلي عنه بسهولة. إلا أن التحذيرات الأخيرة من الدوحة تُذكّرنا بأن أمن الطاقة الأوروبي لا يزال يعتمد على اعتبارات جيوسياسية متقلبة.

في هذا السياق، يُرجّح خبير الطاقة القطري، عبد العزيز الدليمي، احتمالية حدوث أزمة طاقة أوروبية إلى قرار الدوحة النهائي بشأن التصدير، مُشيرًا إلى أن البدائل الأمريكية أو الكندية غير كافية ولا مضمونة، لا سيما في ظل الحرب الروسية الأوكرانية الدائرة. ويتساءل: “هل سيجرؤ الاتحاد الأوروبي على تطبيق القانون على الولايات المتحدة، التي انسحبت بالفعل من اتفاقية باريس للمناخ؟” ويُجيب: “لا أعتقد ذلك”، داعيًا إلى مراجعة القانون. ويُؤكد أن قطر تتخذ خطوات جادة لخفض الانبعاثات والاستثمار في مشاريع صديقة للبيئة.

وترى الخبيرة اللبنانية في قضايا الطاقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لوري هاياتيان أن قانون العناية الواجبة يشكل مصدر قلق كبير بالنسبة لقطر، حيث تعتبره الدوحة تعدياً مباشراً على سيادتها وفرض أعباء تنظيمية ومالية تفوق قدراتها.

في مقابلة مع بي بي سي نيوز عربية، أوضحت هايتيان أن التزامات القانون لا تقتصر على شركة قطر للطاقة، بل تمتد لتشمل سلسلة التوريد بأكملها، من الموردين الكبار إلى الشركات الصغيرة، وحتى، على حد تعبيرها، “شركات القهوة” التي تتعامل مع قطر للطاقة. وأضافت أن تطبيق هذا القانون يتطلب موارد هائلة، وقد تصل غرامات عدم الامتثال إلى 5% من إجمالي المبيعات العالمية، وهو مطلب ترفضه الدوحة رفضًا قاطعًا.

ويشير هايتيان إلى أن قطر قد تفكر في الانسحاب من بعض عقود تصدير الغاز مع أوروبا بتكلفة أقل من الانخراط في نظام بيروقراطي معقد.

يُحذّر هايتيان من أن تطبيق خطة الاتحاد الأوروبي لوقف واردات الغاز الروسي بحلول نهاية عام ٢٠٢٧ سيجعل أوروبا أكثر اعتمادًا على مصادر بديلة للإمدادات، وخاصةً قطر. إذا نفذت الدوحة تهديدها، فستواجه القارة الأوروبية أزمة طاقة حقيقية، مما قد يُجبرها على الاعتماد مجددًا على الولايات المتحدة كمصدر بديل.

يتفق هايتيان مع الدليمي في تشكيكه في التزام واشنطن الصارم بأحكام القانون الأوروبي الجديد. وهذا يثير تساؤلات حول التطبيق المتوازن لمعايير الاتحاد الأوروبي على جميع الشركاء. ويشير هايتيان إلى أن التشريع الجديد لا يلقى معارضة من الموردين فحسب، بل يثير أيضًا تحفظات لدى العديد من الشركات الأوروبية التي ترى صعوبة في تطبيقه. وهذا يزيد من احتمال تعديل الأحكام أو تخفيفها في المستقبل.

ما هي الأسواق البديلة المتاحة؟ هل تتجه قطر أكثر نحو آسيا؟

يرى الخبير القطري عبد العزيز الدليمي أن القانون لا يُشكل تهديدًا لقطاع الطاقة القطري، بل يقتصر تأثيره على السوق الأوروبية، إذ تستمر صادرات الغاز القطري إلى آسيا وغيرها من الأسواق كالمعتاد.

وأضاف: “تتمتع قطر بمساحة واسعة للمناورة بفضل علاقاتها الوثيقة مع الدول الآسيوية، وخاصة الصين وكوريا الجنوبية واليابان والهند وباكستان. كما تمتلك البلاد أكبر أسطول لنقل الغاز الطبيعي المسال في العالم، مما يمنحها مرونة كبيرة في إعادة توجيه صادراتها”.

فيما يتعلق بالخيارات البديلة لقطر، تشير لوري هايتيان إلى أن أسواق آسيا وأفريقيا، وخاصة الصين، تُمثل بديلاً استراتيجياً محتملاً في حال تعثر العلاقات مع أوروبا. وتستند في حجتها إلى أحدث البيانات الرسمية، التي تُظهر أن الصين هي أكبر مستورد للغاز القطري، وقد وقّعت عقود توريد مع شركات صينية كبرى لمدد تصل إلى 27 عاماً.

وبحسب أحدث الأرقام الرسمية، تعد آسيا الوجهة الأهم لصادرات الغاز القطرية بعد الصين وكوريا الجنوبية والهند واليابان، حيث تمثل أكثر من 70% من إجمالي الصادرات.

اختبار توازن المصلحة البيئية

ويرى المستشار النفطي وخبير الطاقة الكويتي الدكتور مبارك الهاجري أن تصعيد قطر ضد قانون العناية الواجبة الأوروبي حتى الآن لا يتجاوز مناورة تفاوضية مدروسة، خاصة أن الدوحة تدرك العواقب التي قد تترتب على انسحابها من العقود طويلة الأجل مع دول الاتحاد الأوروبي، سواء من الناحية القانونية أو على سمعتها كمصدر موثوق للطاقة.

أوضح الهاجري في مقابلة مع بي بي سي نيوز عربية: “لدى قطر عقود طويلة الأجل مع معظم الدول الأوروبية. الانسحاب من هذه العقود أو أي إجراءات تُخالفها قد يُعرّض البلاد لمخاطر قانونية وغرامات”. وأضاف: “أتوقع أن تحافظ قطر على سمعتها كمورد موثوق للغاز الطبيعي المسال، لأن التهديد بإنهاء العقود المستقبلية، برأيي، سيُثني الكثيرين عن إبرام المزيد من العقود مع قطر”.

الهاجري مقتنع بأنه على الرغم من امتلاك قطر للوسائل اللازمة لإعادة توجيه صادراتها إلى الأسواق الآسيوية أو تشكيل تحالفات مع شركاء جدد، إلا أن هذه البدائل تُعدّ، في الوقت الحالي، أداة تفاوضية أكثر منها خيارًا استراتيجيًا حقيقيًا. وكما لا تستطيع أوروبا تحمّل التخلي عن مورد حيوي كالغاز القطري خلال فترة انتقالية حساسة في قطاع الطاقة، فإن الدوحة، بدورها، تُدرك أن الحفاظ على مكانتها في السوق الأوروبية لا يقل أهمية، إن لم يكن أهم، عن تنويع عملائها، وفقًا للهاجري.

ولذلك يعتقد خبير الطاقة الكويتي أن المسار الأكثر ترجيحا للمضي قدما هو أن يسعى الطرفان إلى التوصل إلى حل فني وربما سياسي يخفف من شدة الالتزامات القانونية الأوروبية دون المساس بالأهداف الأساسية المتعلقة بالبيئة وحقوق الإنسان.

باختصار، يُمثل موقف قطر اختبارًا حقيقيًا لقدرة الاتحاد الأوروبي على التوفيق بين أولوياته البيئية ومسؤولياته الاقتصادية. أما تهديد قطر، سواءً تحقق أم لا، فهو يُرسل رسالة سياسية واضحة: لا يُمكن بناء نظام استدامة عالمي على معايير أحادية الجانب.

بل، وفقًا للدوحة، ينبغي أن يكون ذلك نتيجة شراكة متوازنة تحترم السيادة وتراعي الاختلافات الاقتصادية والتنموية بين الدول. وبينما تؤكد قطر استعدادها للتعاون في مجال البيئة وتطوير تقنيات خفض الانبعاثات، فإنها ترفض تحمل التكاليف القانونية والمالية للقانون الجديد. لذا، فإن رسالة قطر واضحة: إن الحفاظ على أمن الطاقة في أوروبا يتطلب توازنًا في المصالح، وليس فرض معايير أحادية، وفقًا لرؤية الدوحة.


شارك