زياد الرحباني وفيروز.. قصة فنية وإنسانية بصوت وطن

وتبقى العلاقة بين زياد الرحباني (الذي توفي صباح اليوم) ووالدته فيروز علاقة فنية وإنسانية عميقة وغنية أثمرت أعمالاً ذات قيمة كبيرة في تاريخ الموسيقى العربية.
وُلِد الحلم في بيت الموسيقى… كان أحد بيوت أنطلياس القديمة، حيث كان البيانو قطعة أثاث لا تقل أهمية عن الطاولة. نشأ زياد الرحباني محاطًا بنوتات موسيقية وصوت والدته فيروز الساحر، بالإضافة إلى المسرحيات والقصص المُغنّاة.
جلس زياد الرحباني الصغير تحت البيانو، يستمع إلى صوت والدته وهي تتدرب على أغنية جديدة من كلمات عاصي ولحنها منصور. لم يكن يعلم أن هذا الصوت، الذي ملأ البيت دفئًا وجلالًا، سيصبح يومًا ما أهم وسيلته، وأعظم مسرح له، وربما أعظم تحدٍّ له.
لم يكن منزلاً عادياً، بل كان مصنع أحلام كتب فيه الأخوان رحباني القصائد الغنائية وحولتها فيروز إلى خلود.
كان قلبه الشاب يسأل أسئلةً تتجاوز سنه: لماذا يُغنّى الوطن بهذه البساطة؟ لماذا لا نسمع عن التعب والخوف والشوارع المدمرة؟ كان يشعر أن أغاني الرحباني – على جمالها – تهرب أحيانًا من الواقع.
مع تقدمه في السن، لم يعد زياد ابنًا لفيروز فحسب، بل أصبح صوتًا آخر وسط الصخب. موسيقيًا متمردًا، كتب عن خيبات الأمل، والسياسة، والحصار، والفقر، والحب بكل تعقيداته. لكن المفارقة الأجمل كانت أن فيروز، بصوتها النقي السماوي، قررت أن تغني هذا الألم الذي كتبه ابنها.
بدأ التعاون الفني بين فيروز وابنها زياد عام ١٩٧٩ مع ألبوم “وحدن”. في ذلك الوقت، كانت بيروت تهتزّ بفعل الحرب الأهلية، فكتب زياد موسيقاه من قلب المعاناة، لا من شرفة الرحباني.
كانت الأغاني بمثابة مكان وزمان: حزينة، صادقة، ومؤلمة. غنّت فيروز كلمات ابنها وألحانه كما لو كانت تُعطيه صوتها ليقول ما يشاء بلغتها.
غنّت فيروز “عودك رنان” و”وحدك” وغنت صرخته الصامتة بصوتها الرقيق.
توالت أعماله، لا سيما ألبوم “كيفك إنت؟” في التسعينيات، الذي قدّم فيه زياد فيروز ألحانًا مفعمة بالصدق والواقعية. جمعت أغاني مثل “كيفك إنت” و”أنا عندي حنين” و”بكتوب إسمك يا حبيبي” بين البساطة والعمق، والشوق والحزن.
في علاقتهما، لم تكن فيروز “الأم” فحسب، بل كانت “الصوت” أيضًا، بينما لم يكن زياد “الابن” فحسب، بل كان أيضًا “الكاتب والموسيقي والمخرج” الذي أعاد تشكيل صورة فيروز للجيل الجديد دون أن يفقد كرامته أو سحره. كان يجرب، ويخاطر، ويبالغ أحيانًا، لكنها وثقت به. كانت تعتقد أن صوته يحمل غضبًا خالصًا، يشبه غضبها الداخلي، الذي لم تُعبّر عنه علنًا قط.
لكن هذه القصة لم تكن دائمًا سلسة. فقد اتسمت بالتوترات والخلافات العائلية والفنية. وكتبت الصحف عن الغربة، ثم الغربة، ثم الغربة. ومع ذلك، في كل مقابلة، لم يرفض ودها قط، بل احترم موقفها، حتى عندما اختلف معها.
ومع ذلك، يبقى صوت فيروز ذكرى مقدسة في أعمال زياد. ففي حياة فيروز، يُجسّد زياد الابن الذي اختار طريقًا مختلفًا، لكنه بقي ابن العائلة، ابن القلب، والصوت الذي حمله في قلبه طوال حياته.
إنها قصة أم وابنها، ولكنها أيضًا قصة منزل وصوت، قصة موسيقى وأسئلة، قصة تقاليد وتمرد. قصة بدأت في دار موسيقى صغيرة، وانتشرت على مسارح حول العالم، وخلّفت وراءها أعمالًا لا تُنسى، تنبض بالحقيقة، وتُثبت أن الفن، عندما يكون عائليًا، يكون أكثر صدقًا وألمًا.
• “عودك يبدو”، “وحيد”، “كيف حالك؟”، “أنا مشتاق”، “لا سبيل”
كل هذه كانت ثمار هذا التحالف العائلي الفني، حيث كانت الأم هي الأيقونة والابن هو المدير الموسيقي لهذا الصوت الخالد.
الاحتكاك بين الحنان والاحتجاج
لم تكن علاقتهما دائمًا سهلة. سواءً أكانت فنية أم عائلية، لطالما شاب التوتر علاقة فيروز وزياد. لم تقتصر الخلافات على الألحان أو الأسلوب، بل امتدت أحيانًا إلى وجهات نظر كل منهما. مع ذلك، ظلّ الاحترام قائمًا بينهما.
ورغم تمرده، كان زياد يقدر صوت والدته فوق كل الأصوات الأخرى، في حين كانت فيروز تقدر صدقه الفني، حتى وإن بدا في بعض الأحيان قاسياً أو متطرفاً.
أم وابنها… أم، منزل، صوت، موسيقى ورسالة؟
لم تكن علاقة فيروز وزياد علاقة أمومة وقرابة فحسب، بل كانت أيضًا صوتًا وكتابةً، موسيقىً ورسالة. من خلالها، عبّر زياد عن جيله، وتجددت فيروز في عيون الشباب – ليس فقط كرمز للماضي، بل كصوتٍ حيّ، متجدد، ومتصل بالحاضر.
عندما يصبح الفن قصة منزلية
قصة زياد وفيروز نادرة في الفن العربي. تجمع بين الرقة والاحتجاج، وخيال الرحباني وواقعيته القاسية. والنتيجة ليست مجرد أغانٍ، بل وثيقة عاطفية معاصرة، تُجسّد الوضع الراهن في لبنان، وتروي قصة الفن كما لو كان من لحم ودم.