توفي في الستين من عمره.. اكتشاف أول تسلسل كامل للجينوم البشري من مصر القديمة لرجل عاش قبل 4800 عام

نجح فريق بحثي في الحصول على أول تسلسل كامل للجينوم البشري من أسنان مصري قديم عاش خلال بناء أقدم الأهرامات. جاء ذلك بعد 40 عامًا من أول محاولة لاستخراج الحمض النووي من مومياء فرعونية.
يعود تاريخ هذه البقايا إلى ما بين 4800 و4500 عام، خلال عصر الدولة القديمة (عصر الأهرامات). ووفقًا لمجلة “نيتشر”، فإنها تشير أيضًا إلى أصول وراثية مشابهة لأصول سكان شمال إفريقيا القدماء، بالإضافة إلى بعض أصول الشرق الأوسط.
وقال ديفيد رايش، أستاذ علم الوراثة السكانية في كلية الطب بجامعة هارفارد في بوسطن بولاية ماساتشوستس، إن هذا الاكتشاف “مهم للغاية ومثير للغاية”، مضيفا: “لقد كنا نأمل منذ فترة طويلة في الحصول على أول حمض نووي قديم من المومياوات الفرعونية”.
تجدر الإشارة إلى أن مختبرات الأبحاث تسعى منذ زمن طويل إلى استخراج الحمض النووي من بقايا المصريين القدماء. في عام ١٩٨٥، أعلن عالم الوراثة التطورية سفانتي بابو عن أول عملية استخراج لتسلسلات الحمض النووي البشري. وقد استخرج آلافًا من شظايا الحمض النووي من مومياء طفل مصري عمره ٢٤٠٠ عام.
يُذكر أن بابو، الحائز على جائزة نوبل عام ٢٠٢٢، أدرك لاحقًا أن هذه التسلسلات ملوثة بالحمض النووي الحديث. ومع ذلك، في عام ٢٠١٧، نجح فريق بحثي في استخراج بيانات محدودة من جينومات ثلاث مومياوات مصرية تراوحت أعمارها بين ٣٦٠٠ و٢٠٠٠ عام.
وأشار بونتوس سكوجلوند، عالم الوراثة القديمة في معهد فرانسيس كريك في لندن وأحد مؤلفي الدراسة المنشورة في مجلة نيتشر، في مؤتمر صحفي حول الاكتشاف إلى أن المناخ الحار في شمال أفريقيا يسرع من تحلل الحمض النووي وأن عملية التحنيط يمكن أن تساهم أيضًا في هذا التحلل: “يبدو أن الجثث المحنطة ليست أفضل طريقة للحفاظ على الحمض النووي”.
تعود البقايا التي فحصها فريق سكوجلوند إلى فترة سبقت انتشار التحنيط. دُفن الشخص في إناء خزفي، مما يدل على مكانة اجتماعية رفيعة، دون أن يكون عضوًا في النخبة. عُثر على البقايا في موقع النويرات الأثري، على بُعد 265 كيلومترًا جنوب القاهرة على نهر النيل.
تم اكتشاف الأسنان والعظام عام 1902 أثناء الاحتلال البريطاني لمصر وتم التبرع بها لاحقًا للمؤسسات العلمية في ليفربول بإنجلترا، حيث لا تزال موجودة حتى يومنا هذا على الرغم من الغارات الجوية الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية.
أوضح سكوجلوند أن توقعاته لاستخراج الحمض النووي من عدة أسنان لهذا المصري القديم من النويرات لم تكن عالية. لكن المثير للدهشة أن اثنتين من هذه الأسنان احتوتا على ما يكفي من الحمض النووي القديم الأصيل لإنشاء تسلسل جينوم كامل. كما أظهرت تحاليل الكروموسوم Y أن البقايا تعود لرجل.
وأظهرت النتائج أن حمضه النووي كان مشابهاً إلى حد كبير لحمض المزارعين الأوائل الذين عاشوا في شمال أفريقيا خلال العصر الحجري الحديث، منذ حوالي 6000 عام، في حين أن بقية حمضه النووي كان يشبه إلى حد كبير حمض سكان بلاد ما بين النهرين، وهي منطقة تاريخية في الشرق الأوسط كانت موطناً للحضارة السومرية القديمة وشهدت ظهور بعض أقدم أنظمة الكتابة.
ولم يعرف بعد ما إذا كان هذا يشير إلى وجود صلة وراثية مباشرة بين سكان بلاد ما بين النهرين وسكان مصر القديمة – وهو ما تشير إليه أيضا أوجه التشابه في بعض القطع الأثرية الثقافية – أو ما إذا كان الرجل لديه جذوره الرافدينية من خلال شعوب أخرى لم تؤخذ عينات منها حتى الآن، كما أوضح الباحثون.
كشفت العظام المتبقية للرجل المصري القديم تفاصيل أخرى عن حياته. تشير علامات التهاب المفاصل وهشاشة العظام إلى وفاته في سن متقدمة بالنسبة لعصره، ربما فوق الستين.
وتشير العلامات الأخرى الموجودة على عظامه إلى حياة شاقة من المجهود البدني والجلوس منحنياً على الأسطح الصلبة.
وبناءً على هذه الأدلة، فضلاً عن الصور التي عُثر عليها في قبور أخرى من نفس الفترة، اقترح جويل آيريش، أستاذ علم الأحياء الأثري في جامعة ليفربول جون موريس وأحد المشاركين في الدراسة، خلال المؤتمر الصحفي، أن الرجل كان على الأرجح مشاركًا في صناعة الفخار.
وقال يحيى جاد، عالم الوراثة بالمركز القومي للبحوث بالقاهرة: “إن نشر مجموعة بيانات كاملة لجينوم مصري قديم يعد إنجازًا كبيرًا في مجال علم المصريات وعلم الوراثة الجزيئية”.
وأشاد أيضاً بالباحثين لعرضهم الواضح لأصول البقايا، لكنه أشار إلى أن هذه البيانات جاءت من فرد واحد فقط وقد لا تعكس التركيبة الجينية الكاملة لمصر القديمة، والتي كانت على الأرجح بوتقة تنصهر فيها أصول عديدة ومتنوعة.
يتطلع العلماء إلى الحصول على المزيد من البيانات الجينية من بقايا المصريين القدماء، وربما حتى من عمليات التحنيط. وبفضل التقدم في علم الجينوم وتطور القدرات البحثية المحلية – حيث يرأس جاد مختبرًا للحمض النووي في المتحف الوطني للحضارة المصرية بالقاهرة – يأمل الباحثون ألا يستغرق تحقيق ذلك 40 عامًا أخرى.
وأشاد الكاتب والمفكر والطبيب المصري الدكتور محمد أبو الغار عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بهذا البحث المهم، الذي يرى أنه يؤكد أن المصريين القدماء هم أجدادنا.
وأضاف أن الأبحاث حددت جينات وراثية وحمضًا نوويًا في أسنان فك مومياء عمرها 4700 عام، أي ما يقارب عمر الهرم الأكبر. وهذا يشير إلى أن الجينات مشابهة لتلك الموجودة لدى السكان المصريين في شمال أفريقيا.
أشار أبو الغار أيضًا إلى أن دراسات عديدة أُجريت على المصريين المعاصرين، أثبتت أن جزءًا كبيرًا من جيناتهم يعود إلى الفراعنة. وأوضح أن الجينات في الوجه البحري مختلطة للغاية، بينما في الوجه القبلي أكثر نقاءً. علاوة على ذلك، فإن التركيب الجيني للأقباط في الوجه القبلي مستمد بنسبة 100% من المصريين القدماء.