إيلون ماسك يطرق أبواب لبنان: هل تشكّل “ستارلينك” حلًا رقميًا أم مصدر قلق سيادي؟

ليس سراً أن قطاع الاتصالات في لبنان يعاني من سلسلة أزمات نتيجة هشاشة بنيته التحتية وتدهور الأوضاع الاقتصادية والصدمات الأمنية المتتالية.
وفي هذا السياق، جذب إعلان رجل الأعمال الأميركي إيلون ماسك عن اهتمامه بإطلاق خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية “ستارلينك” في لبنان اهتماماً كبيراً.
وأجرى ماسك اتصالاً هاتفياً مع الرئيس اللبناني جوزيف عون، أعرب فيه عن رغبته في دخول السوق اللبنانية، فيما أبدى الرئيس استعداده لتقديم كل التسهيلات الممكنة في إطار القوانين القائمة.
لاقى الإعلان ترحيبًا من بعض الجهات الرسمية، إلا أن مزودي خدمات الإنترنت الخاصين ومنظمات الحقوق الرقمية أبدوا أيضًا مخاوف كبيرة. وأعربت هذه المنظمات عن قلقها بشأن قانونية إطلاق ستارلينك في السوق اللبنانية، والتزامها بحماية خصوصية المستخدمين واحترام سيادة الدولة في المجال التقني.
ستارلينك هي شبكة إنترنت فضائية تُشغّلها شركة سبيس إكس التابعة لإيلون ماسك. تستخدم آلاف الأقمار الصناعية منخفضة المدار لتوفير إنترنت عالي السرعة، خاصةً في المناطق ذات البنية التحتية التقليدية المحدودة. الشبكة تعمل بالفعل في عدة دول، أبرزها أوكرانيا، حيث استُخدمت خلال الحرب لتوفير الاتصال في حالات الطوارئ.
وفي لبنان، ظهرت فكرة إطلاق ستارلينك لأول مرة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما اقترح وزير الاتصالات السابق جوني قرم استخدام الشبكة كخيار احتياطي في ظل تصاعد التوترات على الحدود الجنوبية بين حزب الله وإسرائيل، والتي تطورت لاحقا إلى حرب في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
في ظل تفاقم أزمة الكهرباء وتهالك البنية التحتية في السنوات الأخيرة، يواجه الإنترنت تحديات مستمرة. لذا، تُقدم خدمات ستارلينك خيارًا تكنولوجيًا مُحتملًا. فهل تُمثل فرصةً لتعزيز البنية التحتية الرقمية في لبنان، أم تُشكل تهديدًا لاقتصاده وأمنه الرقمي؟
لا يوجد إطار قانوني واضح
وبحسب تقارير صحفية، جاءت المكالمة الهاتفية بين ماسك والرئيس عون تتويجًا لسلسلة اجتماعات بين وفد من ستارلينك وعدد من المسؤولين الحكوميين اللبنانيين، بمن فيهم وزير الاتصالات شارل الحاج. وعقد سام تيرنر، مدير التراخيص العالمية في ستارلينك، اجتماعات رسمية بحضور السفيرة الأمريكية ليزا جونسون، كما حضرها رئيس الوزراء نواف سلام ووزير الاتصالات.
حاولت بي بي سي العربية التواصل مع ممثلي الشركة للحصول على مزيد من المعلومات حول أهدافها في السوق اللبنانية، لكنها لم تتلقَّ ردًا حتى وقت النشر. ولم يُقدَّم الملف رسميًا إلى مجلس الوزراء بعد، ولم تُفصح الشركة عن الشروط التعاقدية أو التنظيمية المفروضة عليها بعد.
من جانبها، أكدت وزارة الاتصالات لبي بي سي عربي عبر مكتبها الإعلامي أنه سيتم تكثيف الاجتماعات هذا الأسبوع لمناقشة الأمر بشكل أكبر مع الجانب الأمريكي واتخاذ الإجراءات اللازمة.
مع ذلك، ثمة عقبات قانونية قد تعيق تنفيذ المشروع. فبموجب القانون رقم 431 لعام 2002، تُعدّ الهيئة الناظمة للاتصالات الجهة الوحيدة المخولة بإصدار تراخيص التشغيل لشركات الإنترنت في لبنان. إلا أن الهيئة معطلة منذ عام 2012، بعد انتهاء مدة مجلس إدارتها، وحال الخلافات السياسية دون تعيين خلف لها.
بدأت الهيئة عملها عام ٢٠٠٧، وكان من المفترض أن تُشرف على وزارة الاتصالات. وشملت مسؤولياتها مراجعة السياسات والعقود وآليات التنفيذ، مما عزز الشفافية والمساءلة في القطاع. إلا أن غياب هذه الرقابة التنظيمية سمح للوزارة بإدارة شؤون القطاع بشكل منفرد.
وفقًا لتحقيق أجرته منظمة الحقوق الرقمية “سمكس”، يُعدّ إصدار ترخيص جديد دون استشارة الهيئة الناظمة مخالفةً للقانون. كما يُظهر التحقيق أنه، وفقًا للمرسوم رقم 9288 لعام 1996، يجب أن يتم استيراد سعة الإنترنت الدولية عبر شركة أجنبية مثل ستارلينك حصريًا من خلال وزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو، وهي الشبكة الرسمية للاتصالات والهاتف في لبنان.
القلق في القطاع الخاص
بالتوازي مع الإجراءات الرسمية، أعربت شركات لبنانية خاصة في قطاع خدمات الإنترنت عن مخاوفها من أن دخول ستارلينك إلى السوق دون تنظيم واضح قد يؤدي إلى خسارة بعض عملائها، وخاصة الشركات الكبرى، ما قد يؤثر سلبًا على إيراداتها وعلى إجمالي إيرادات الدولة.
وفي هذا السياق، وجهت هذه الشركات رسالة إلى رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء ولجنة الاتصالات البرلمانية، تدعو فيها إلى اتباع نهج مدروس ومتدرج لتنظيم طرح ستارلينك لضمان التوازن وحماية أصحاب المصلحة المحليين.
من جانبها، أوضحت وزارة الاتصالات، رداً على أسئلة بي بي سي عربية، أن التكلفة المرتفعة لاشتراك ستارلينك مقارنة بالتعريفات المحلية، سيجعلها غير قادرة على المنافسة مع الخدمات الحالية، مشيرة إلى أن استخدامها سيقتصر على حالات الطوارئ أو انقطاع الشبكة.
وأكدت الوزارة أن دخول الخدمات الأجنبية إلى السوق لن يكون عشوائيا، بل سيخضع لإطار قانوني يضمن حقوق الشركات المرخصة ويضمن استمرارية الخدمات وفق المعايير الوطنية.
السيادة الرقمية والصراعات على المصالح
ومع تصاعد المحادثات بشأن التعاون المحتمل مع شركة ستارلينك، أثيرت تساؤلات حول قدرة الدولة اللبنانية على حماية سيادتها الرقمية في مواجهة دخول مزود أجنبي إلى سوق الإنترنت المحلية.
في هذا السياق، اعتبر النائب ياسين ياسين، عضو لجنة الاتصالات النيابية، الترددات والسعات الدولية مرافق عامة لا يجوز تخصيصها أو استخدامها خارج الإطار القانوني. وفي تصريحٍ لموقع SMEX، أوضح أن تشغيل الخدمة دون قنوات رسمية يُعدّ مخالفةً للقانون، مشددًا على ضرورة التحقق من الجهات التي تُرسَل إليها بيانات المستخدمين عند تفعيل الخدمة.
من جانبها، أكدت وزارة الاتصالات لبي بي سي عربي أن حماية السيادة الرقمية تشكل أولوية في هذه المرحلة، وأنها تعمل بالتنسيق مع الجهات التقنية والأمنية على تطوير إطار قانوني وتنظيمي لتنظيم هذه العملية وضمان حماية البيانات.
أشار تقرير SMEX إلى احتمال وجود تضارب في المصالح، إذ زُعم أن وزير الاتصالات شارل الحاج كان يمتلك سابقًا أسهمًا في شركتين لبنانيتين مشاركتين في نشر خدمات ستارلينك. رفضت الوزارة بشدة هذا الادعاء، مؤكدةً أن جميع الإجراءات المتعلقة بالخدمة تمت بشفافية، ووفقًا للأنظمة القانونية، وبعلم الجهات المختصة.
تجدر الإشارة إلى أن بي بي سي لم تتمكن من التحقق بشكل مستقل من دقة هذه المعلومات.
هل ستصل الخدمة فعليا إلى الأفراد؟
وفقًا لتقارير من SMEX وعدة صحف محلية، ستقتصر خدمات ستارلينك في البداية على الشركات والمؤسسات الكبرى، وليس الأفراد. ستتراوح تكلفة الاشتراك الشهري بين 42 و56 دولارًا أمريكيًا، بينما سيبلغ سعر اشتراك الشركات بسعة تصل إلى 500 جيجابايت 111 دولارًا أمريكيًا. هذا بالإضافة إلى تكلفة الوحدة الأساسية التي تتراوح بين 350 و500 دولار أمريكي.
تواجه خدمة الإنترنت في لبنان تحديات كبيرة، لا سيما مع بطء وانقطاعات الاتصال، لا سيما خارج المدن الكبرى. ورغم ارتفاع تكلفتها، لا يضمن المستخدمون استقرار الخدمة أو سرعاتها بما يتوافق مع المعايير الدولية. لذا، يرى البعض أن ستارلينك قادرة على سد الفجوة الرقمية، لا سيما في المناطق المحرومة، إذا ما أُدمجت ضمن خطة وطنية شاملة.
ومع ذلك، حذر خبير تقني تحدث إلى SMEX بشرط عدم الكشف عن هويته من أن طرح ستارلينك دون إطار تنظيمي قد يؤدي إلى تعميق الفجوة الرقمية بدلاً من سدها إذا لم يتم طرح الخدمة في إطار شامل وعادل.
وأشار أيضاً إلى أن نقل بيانات المستخدمين عبر الأقمار الصناعية إلى خوادم خارجية قد يخالف القانون اللبناني المتعلق بحماية البيانات الشخصية، وخاصة القانون رقم 81 لعام 2018، الذي يقيد نقل البيانات إلى خارج البلاد دون ترخيص رسمي وتنظيم قانوني واضح.