قصر الفرافرة.. قصة حصن روماني تحرسه “سعادة” منذ ثلاثين عامًا (صور)

على قمة تلة نائية في قلب واحة الفرافرة بمحافظة الفرافرة، ترتفع أطلال مربعة لحصن روماني، يُعرف محليًا باسم “قصر الفرافرة”. لم يكن هذا البناء مجرد مبنى طيني قديم، بل كان في يوم من الأيام ملاذًا آمنًا لسكان الواحة، ومستودعًا لقصص بطولية واقعية قبل أن تُنسى.
في هذه الرواية، يعيد ايجي برس بناء ملامح هذه القلعة المهجورة، ويتذكر تفاصيل المرأة التي حاربت بمفردها نير النسيان: “سعدة”، الحارسة التي احتفظت بـ116 مفتاحًا لمدة ثلاثة عقود.
– حصن على الرمال…بداية من العصر الروماني
لم يكن اختيار موقع القلعة مصادفةً. فقد بُنيت على نتوء صخري فوق مداخل الواحة، وبلغ طول ضلعها 55 مترًا وارتفاعها 10 أمتار. وتكوّنت أساساتها من كتل حجرية خشنة بارتفاع مترين، وعُلّقت جدرانها بطوب طيني ضخم. وتقع البوابة في الجهة الشرقية، تليها ممرات ضيقة ومتعرجة ومتشعبة لحماية المدخل وإبطاء زحف المهاجمين.
أكد الدكتور مجدي إبراهيم، مدير عام هيئة آثار الداخلة والفرافرة، لموقع ايجي برس، أن هذه الممرات المتعرجة كانت من أهم التقنيات الدفاعية في العصر الروماني. وأشار إلى أن القلعة كانت تحتوي على بئر محفور وخزان مياه، مما مكنها من الصمود في وجه الحصار.
الفرافرة… أرض الحصاد وهجرة المسيحيين
تعود أصول واحة الفرافرة إلى عهد الفراعنة. ففي وثائق الأسرة العاشرة، ذُكرت باسم “تاهت” (أرض البقر) لخصوبتها ومراعيها. وفي العصر الروماني، أصبحت الفرافرة “أرض حبوب”، إذ كانت تُغذي الإمبراطورية بالمحاصيل. وبُنيت فيها حصون دفاعية، مثل قصر الفرافرة.
وأكد عالم الآثار بهجت أبو سديرة، رئيس قطاع آثار الوادي السابق، أن الأقباط الفارين من الاضطهاد الروماني في العصر القبطي لجأوا إلى الفرافرة وتركوا بصماتهم في مناطق مثل وادي هونس وعين أبشواي، مما جعل الواحة بوتقة تنصهر فيها الحضارات على مر القرون.
من القلعة إلى المستودع… القرية تحكي قصصها
أوضح خبير تراث الواحات، محمود عبد ربه، أن وظيفة القلعة على مر القرون تغيرت من حصن دفاعي إلى مخزن حبوب جماعي. واليوم، يقسمها السكان المحليون إلى 116 غرفة، تضم كل منها فائض محصول العائلة من القمح والتمر والمشمش والزيتون المجفف.
وتظهر الوثائق أن كل غرفة كان لها باب مصنوع من جذوع النخيل وكان الوصول إلى الطابق العلوي عن طريق درج خشبي – وهو مشهد يجمع بين بساطة الواحة وإبداع التنظيم.
“سعدة”… الحارس الذي لم يهمل القصر قط
في قلب هذه المتاهة الطينية، وقفت امرأة وحيدة تحرس مفاتيح 116 غرفة. تولت سعادات عبد الحفيظ هيبة حراسة القصر في أربعينيات القرن الماضي بعد وفاة زوجها، جاد الرحمن محمد كساب، الحارس الأول.
ويؤكد حمدي حمودة، وهو مرشد سياحي من الفرافرة، أن جده كان يحكي له دائمًا قصصًا عن أمانة وشجاعة «سعدة»، التي احتفظت بمفاتيح الغرف كلها لأكثر من ثلاثين عامًا، ولم يدخل أحد مخزنه إلا بحضورها.
وأضاف: “كانت تعرف كل مفتاح وصاحبه، ولم تكن تفتح أي غرفة إلا بحضوره، وحافظت على النظام بدقة تفوق حتى أعتى الأنظمة الإدارية”.
خسارة القلعة… عندما دمّر المطر التاريخ
في عام ١٩٤٥، تغير كل شيء. هطلت أمطار غزيرة على الفرافرة على غير العادة، مما أدى إلى انهيار جدران القلعة الطينية وبواباتها الضخمة المصنوعة من خشب الأكاسيا. هرع السكان لإنقاذ ما تبقى من محاصيلهم، بينما وقفت صعدة وسط الأنقاض تشهد اللحظات الأخيرة.
في عام ١٩٥٨، انهار الحصن تمامًا. ماتت سعدة في صمت؛ لم تُوثَّق قصتها في أي وثيقة رسمية، لكن بطولتها أسطورة شفهية يتناقلها أهل الواحة حتى يومنا هذا.
– شهادات نادرة عن “صعدة”… ذكرى لم تُدوّن
ويرى عبد ربه أن المؤرخين تجاهلوا رواية صعدة في أغلب ما كتبوه عن القلعة، باستثناء إشارة واحدة في كتاب لعالم الآثار البارز الدكتور أحمد فخري، تشير إلى وجود امرأة خمسينية كانت تحمل مفاتيح القلعة وتدير المخازن.
وأضاف: “صدق سعدة أذهل علماء الآثار، الذين تساءلوا كيف تستطيع امرأة إدارة هذا العدد الكبير من الغرف دون سرقة حبة قمح واحدة”.
– زيارتي الأولى لأوروبا… وذكريات السفر
ذكر عبد ربه أن الرحالة الفرنسي فريدريك كايو زار الفرافرة عام ١٨١٩، ودوّن في مذكراته أن قصر الفرافرة كان مهجورًا، وأن سكان الواحة كانوا يعانون من العزلة ويخشون الغرباء. وكانت الإبل وسيلة النقل الوحيدة. واستغرق الوصول إلى الداخلة أربعة أيام، وديروط سبعة أيام.
لاحقًا، في عام ١٨٧٤، أرسل الخديوي إسماعيل بعثة ألمانية بقيادة جيرهارد رولف للبحث عن المياه الجوفية. مرّت البعثة بالفرافرة، لكنها لم تتمكن من توثيق القلعة. إلا أن صور سعدة، التي التقطها أحمد فخري بعد سنوات، توثّق هدوء القصر.
الفرافرة اليوم…ذكرى الرمال لا تموت
رغم انهيار القلعة، لا تزال واحة الفرافرة تزخر بتراث تاريخي قيّم. يوضح مجدي إبراهيم أن قصر الفرافرة مُدرج حاليًا في قائمة الآثار، ويجري حاليًا دراسة إمكانية ترميمه كأثر تاريخي يعكس عبقرية العمارة الرومانية وجوانب الحياة في الواحة.
في القرن الحادي والعشرين، أصبحت الفرافرة وجهة للسياحة البيئية، وخاصة الصحراء البيضاء، التي أُعلنت محمية طبيعية عام 2002. وتضم هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها 3010 كيلومترات مربعة تكوينات الحجر الجيري النادرة والينابيع الساخنة مثل بئر ستة، حيث تظل درجة الحرارة عند 24 درجة مئوية طوال العام.
– الحظ الذي فاق الحصون الرومانية
لم تكن سعدة مجرد امرأة بدوية تحمل مفاتيحها؛ بل كانت آخر رمز للقلعة، آخر من ترك تاريخ شعبٍ احتفظ بكنوزه وأسراره في قلب الصحراء. قد ينهار الحصن وتنهار أسواره، لكن ذكراه باقية، تحرسها رمال الفرافرة، كما كانت سعدة يومًا، وحيدةً، وفيةً تمامًا.