غزة تتضور جوعا.. قصة أقسى حصار وتجويع في التاريخ الحديث

الجوع في غزة ينهش الأجساد المنهكة، ويقربها من الموت أكثر فأكثر. للموت في غزة ألف وجه، لكن أبشع ملامحه اليوم تتكشف في صرير الأمعاء الفارغة، التي سرعان ما تعود للصرير من الإرهاق، فينهار الإنسان، معلنًا نهاية حياة قاسية بموت أشد فظاعة.
لا شيء على الأرض الآن سوى الجوع، ولا شيء يتساقط من السماء سوى النيران. وهكذا، تركزت المعاناة على سبب مُحدد مسبقًا: شعب يُباد بلهيب الخوف والجوع. ورغم تفاقم المجاعة والتحذيرات المُقلقة من المنظمات المحلية والدولية، وخاصة اليونيسف، التي تُصنف ما يقرب من نصف مليون غزّي في المستوى الخامس على مقياس كارثة المجاعة، لا تزال موائد العالم تُغرق بالطعام، ويستمر العالم في تجاهل كارثة غزة.
الجوع… عدالة الموت القذر
لم تنجُ سهام الجوع أحدًا في غزة. حتى من صبروا، صوت غزة وابتسامتها وسط بحر من النيران والدموع، بدأوا يفقدون قواهم، وبدأ الجوع يلتهم أجسادهم الهزيلة. ثم خرجوا عن صمت الصبر النبيل، وأعلنوا، بدمٍ دامٍ، أنهم “يترنحون من الجوع”، كما أوضح مراسل الجزيرة أنس الشريف. لمدة عامين، كان صوت غزة، يُجهد قلبه ومعدته في مواجهة ألم الفقد الذي لا يُطاق ووحشية الجوع القاتل.
وتصبح المأساة أكثر إيلاما عندما يصيب الجوع، الشعور الأكثر بغضا في العالم، شعبا ينتمي إلى أمة تضم ملياري مسلم، ويعيش إلى جانب ما يقرب من 400 مليون إنسان يشتركون معهم في الدين واللغة والهوية، ولكنهم يتميزون عنهم بمقاومتهم، ونيرانهم، وجوعهم.
أنس ليس إلا الصوت العالي في غزة، وإلى جانب ذلك فإن مئات الآلاف من الناس يعانون من الجوع جسداً وروحاً، ولا يجدون ما يسد جوعهم.
وبينما يتشابه أهل غزة في صبرهم وصمودهم، وقد طوروا نمطاً مشتركاً من الإبداع التضحيوي، فإنهم يتشابهون أيضاً في مدى الموت والجوع المستمر الذي يسود بين الخيام والأكواخ والركام، وبين الأحشاء والأحشاء.
الجوع… النار التي تحرق أطفال غزة
أطفال غزة، الأضعف من غيرهم والأقل قدرة على الصمود، هم الضحايا الرئيسيون للجوع. وقد تجاوز عدد ضحايا الجوع 900، وأصيب الآلاف، وهم يحاولون كسب عيشهم وسط سيل متواصل من التحذيرات الدولية التي لا تُؤخذ على محمل الجد.
يُهدد الجوع ما يقرب من 71 ألف طفل في غزة. ويتطلب بقاؤهم على قيد الحياة اتخاذ إجراءات عاجلة لمكافحة سوء التغذية، الذي أصبح الآن العرض الوحيد لأطفال غزة، ورمزًا للجوع. وتُعدّ الأضلاع الضعيفة، والعظام المتعفنة، والأرواح التي تصل إلى الأعناق، من أكثر الصور المؤثرة التي تظهر يوميًا في قطاع غزة.
مصائد الموت بسبب الإيدز
إن إسرائيل لا تكتفي بنصب فخ لشعب غزة، بقتلهم من خلال القصف المدفعي المستمر، ثم تنهال عليهم مرة أخرى عندما يتجمع الحشد الجائع في نقاط توزيع المساعدات القليلة.
هناك العديد من صور المأساة هنا: استشهد شخص بنيران مباشرة، ومات آخر وهو يحمل قطعة خبز، وتمزق ثالث إلى أشلاء وهو على وشك الوصول إلى علبة تونة، ومات آخر في الحشد بعد أن دهسه الفارون من النيران التي أمطرتهم بها إسرائيل.
لقد أدمنت إسرائيل قصف الناس المتجمعين حول مراكز توزيع الغذاء – المعروفة بمصائد الموت في غزة – أو خارج ما يُسمى بمطابخ غزة الكبيرة. كما أدمنت قصف المستشفيات، في سعيها الدؤوب نحو الإبادة الشاملة لا غير.
وفقًا لليونيسف، يُواجه 470 ألف شخص في غزة خطر المجاعة الكارثية (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي). كما يؤكد البرنامج الدولي أن 71 ألف طفل في غزة بحاجة ماسة إلى علاج سوء التغذية، وأن ما يقرب من 17 ألف أم تواجه المصير نفسه.
هذا الوضع الكارثي ليس إلا غيضًا من فيض الموت في غزة. جميع سكان قطاع غزة يعانون من الجوع أو الموت جوعًا، ولا يحصلون على الغذاء.
تدق منظمة اليونيسف ناقوس الخطر، مؤكدة أن “العمليات العسكرية المتجددة، والحصار الشامل المستمر، والنقص الحاد في الإمدادات الأساسية قد يدفع انعدام الأمن الغذائي، وسوء التغذية الحاد، والوفيات إلى مستويات تتجاوز المجاعة في الأشهر المقبلة”.
هل هناك أي طريقة لأخذ قضمة؟
لقد أصبح هذا السؤال هو الأكثر شيوعاً بين الناس في قطاع غزة، في خيامهم الصغيرة، وتحت الأنقاض، وبين أسرة المستشفيات المكتظة بسبب تدفق الأطفال وكبار السن الذين يعانون من خشخشة الموت والأمعاء المتكلسة.
ومع عجز المستشفيات عن استيعاب هذا العدد الهائل من الناس وتوفير الحد الأدنى من العلاج والإسعافات الأولية، فإن إسرائيل على وشك المخاطرة: إرهاق الأجساد إلى الحد الذي لم تعد قادرة على دعم الروح، التي تفيض بالصمود والمقاومة والصبر.
بينما ينهش الجوع أجساد سكان غزة، يتردد صوت أبو عبيدة، المتحدث العسكري باسم كتائب القسام، في آذان العالم العربي. تحتدم المظاهرات للحظة، ثم تهدأ وتعتاد على الوضع، لكن هذا لا يزعزع كبرياء المعتصم.