جفاف الينابيع في لبنان.. كارثة تتهدد حضارة بعلبك

يعاني لبنان من أسوأ جفاف منذ أكثر من 65 عامًا. ويُرجع المسؤولون ذلك إلى شحّ الأمطار وضعف التخطيط المائي. الجيولوجي محمود الجمل: جفاف عين البياضة كارثة، مثل جفاف عدة ينابيع أخرى، تحرم المدينة من أهم مصادرها المائية. رئيس بلدية بعلبك أحمد الطفيلي: نحذر من تأثير ذلك على السياحة والزراعة، ولا بد من تحرك عاجل لتمويل مشاريع إعادة مياه النبع. – التقرير السنوي للهيئة الوطنية لنهر الليطاني: العجز المائي يتفاقم عاماً بعد عام بسبب غياب المشاريع لتنمية الموارد والحفاظ على الجودة.
هذا الصيف، شهدت عدة ينابيع في لبنان جفافًا شديدًا، هو الأسوأ منذ 65 عامًا. هذه ظاهرة غير مسبوقة، تُنذر بأزمة مياه غير مسبوقة، ذات عواقب إنسانية وبيئية وخيمة على البلاد.
أشهر هذه الينابيع نبع “البياضة” في مدينة بعلبك شرق لبنان، وهو من أقدم ينابيع المنطقة، وقد أصبح قاحلاً بعد آلاف السنين من توفيره للمياه العذبة.
وبحسب اللبنانيين، فإن بعلبك هي “هبة نبع البياضة”، الذي كان مصدراً رئيسياً للمياه والزراعة على مر العصور ومهداً للحضارات التاريخية.
وبحسب المصادر التاريخية فإن نبع “البياضة” كان السبب الرئيسي وراء اختيار الإمبراطورية الرومانية (31 ق.م – 476 م) لمدينة بعلبك مركزاً لبناء معابدها في القرنين السادس والخامس ق.م، والتي تعرف اليوم باسم “معابد بعلبك”.
وباعتبارها المصدر الرئيسي للمياه في ذلك الوقت، تم بناء قناة لنقل المياه إلى المعابد التاريخية، ولا يزال النبع متصلاً بالهياكل القديمة في بعلبك حتى يومنا هذا.
وتشكل ضفافه أكبر حديقة سياحية طبيعية في لبنان، كما تشكل مصدراً مهماً لري البساتين الزراعية وتزويد المنازل بالمياه.
مع انحسار المياه وجفافها السريع، انقلب هذا المشهد النابض بالحياة رأسًا على عقب. فتحول النبع، مع بركة البياضة ونهر رأس العين الذي يغذيه، إلى أرض قاحلة.
ونتيجة لذلك، اختفت الحياة البرية في البركة والنهر، واختفت الأسماك والأوز والبط، في حين أصبحت وجوه زوار المقاهي والمتنزهين في المنطقة تحمل تعبيرًا حزينًا.
وبحسب تقارير محلية، تعاني مدينة بعلبك من انقطاع المياه لمدة قد تستمر لأسابيع، ومن توزيع غير عادل للمياه، ما يضطر الكثيرين إلى شراء المياه من مصادر “غير آمنة”.
ويرجع المراقبون جفاف الينابيع إلى الجفاف العام الذي يعاني منه لبنان، والذي سببه “انخفاض معدلات الأمطار والثلوج، وغياب الخطط المائية المستدامة، والاستخدام العشوائي للمياه الجوفية، وتأثيرات التغير المناخي”.
**جفاف الربيع “كارثة”
وفي حديث لوكالة الأناضول، قال الجيولوجي محمود الجمل، إن هذا النبع كان السبب الرئيسي الذي دفع الرومان إلى بناء أبنية بعلبك.
ووصف جفاف النبع بأنه “كارثة” حرمت المدينة من “أهم مصدر للمياه في تاريخها”.
وللتأكيد على أهمية المدينة، أشار الجمال إلى: “أن الرحالة المغربي الشهير ابن بطوطة (1304-1378) زار بعلبك وقال إن المدينة ببساتينها ونبع رأس العين لا يفوقها في المنطقة إلا الغوطة في سوريا”.
وأضاف: “قلعة بعلبك ورأس العين توأمان لا ينفصلان، ولولا رأس العين لما وُجدت معابد بعلبك”.
وأكد خلال حديثه أن عدة ينابيع أخرى في المنطقة جفت، منها نبع شليش وعين وردة.
** «بعلبك هبة الأبيض»
من جهته، قال رئيس بلدية بعلبك أحمد الطفيلي: “إن نبع البياضة ورأس العين معلم سياحي وأثري في بعلبك… وكما أن مصر هبة من النيل، فإن بعلبك هبة من البياضة ورأس العين”.
في مقابلة مع وكالة أنباء الأناضول، حذّر الطفيلي من الآثار السلبية لجفاف نبع البياضة على قطاعي السياحة والزراعة، ومن تأثيره السلبي على الحالة الاجتماعية لسكان المدينة وزائريها، وخاصةً السياح والوافدين.
ودعا إلى التحرك السريع لإعادة ضخ مياه النبع، مشيرا إلى صعوبة هذه المهمة التي تحتاج إلى “مشاريع وموارد مالية”.
** عجز المياه
وبحسب التقرير السنوي لعام 2025 للهيئة الوطنية لنهر الليطاني (أكبر نهر في لبنان)، التابعة لوزارة الطاقة، فإن العجز المائي في البلاد يتفاقم سنة بعد سنة بسبب نقص المشاريع لتطوير الموارد والحفاظ على الجودة.
وبحسب نفس الهيئة فإن سوء إدارة الموارد المائية وتلوثها يؤدي إلى خفض الكمية الصالحة للاستخدام إلى أقل من ربع الكمية المتوفرة.
وذكرت الوكالة أن لبنان يعاني من “استنزاف تعسفي ومفرط للمياه الجوفية وانعدام الإدارة المتكاملة للموارد المائية”.
ومما يثير القلق، أن منسوب مياه بحيرة القرعون – أكبر بحيرة في لبنان – انخفض إلى أدنى مستوى له منذ بناء سد القرعون عام 1959. وأظهرت الصور انخفاض احتياطيات المياه في البحيرة إلى مستويات غير مسبوقة، بحسب المصدر نفسه.
وبحسب التقرير، فإن كمية المياه المتدفقة من نهر الليطاني إلى بحيرة القرعون ستنخفض في العام 2025، لتصل إلى 43 مليون متر مكعب، مقارنة بالحد الأدنى السابق البالغ 63 مليون متر مكعب، في حين كان متوسط الكمية في السنوات الماطرة 233 مليون متر مكعب.
وأدى هذا الانخفاض الحاد في إمدادات المياه إلى إغلاق محطة عبد العال لتوليد الطاقة الكهرومائية، التي تستخدم مياه بحيرة القرعون، بحسب بيان سابق لوزارة الطاقة اللبنانية.
وأصدرت مصلحة نهر الليطاني بيانا في 16 حزيران/يونيو، عزت فيه الانخفاض الحاد في منسوب المياه إلى “نقص هطول الأمطار، والاستخدام المفرط وغير المنظم لمياه الري والصناعة، وعدم وجود سياسة لإدارة الموارد المائية المستدامة”.
** “نبع عنجر”
تتجلى أزمة المياه المتفاقمة في البلاد في جفاف نبع عنجر بقضاء زحلة بمحافظة البقاع شرقي لبنان. وتُرجع المصادر الرسمية ذلك إلى عدة أسباب، أبرزها قلة الأمطار.
وكان هذا النبع مصدراً مهماً للمياه الجوفية والسطحية في المنطقة القريبة من الحدود السورية.
وفي 20 حزيران/يونيو، أعلنت مصلحة نهر الليطاني أن الجفاف ناجم عن نقص الأمطار، بالإضافة إلى الاستغلال المفرط للمياه الجوفية وانعدام الإدارة المتكاملة للموارد المائية.
وحذرت الوكالة من أن هذا الأمر يهدد الأمن المائي والبيئي والزراعي في المنطقة ويشير إلى خطورة الوضع الهيدرولوجي (الموارد المائية) الذي بدأ يؤثر على المصادر الرئيسية المعروفة تاريخيا بوفرة المياه.
وبحسب بيان أصدرته هيئة نهر الليطاني في مارس/آذار، فإن لبنان سيشهد “أسوأ موجة جفاف منذ أكثر من 65 عاماً” في عام 2025. وهناك مخاوف من تأثيرات سلبية على القطاعات الحيوية، وخاصة الصحة والغذاء وإمدادات الطاقة.