الكتاتيب.. رافد تعليمي يعود من الذاكرة الشعبية إلى خطط الدولة للتعليم المبكر

منذ 2 أيام
الكتاتيب.. رافد تعليمي يعود من الذاكرة الشعبية إلى خطط الدولة للتعليم المبكر

تُذكرنا كلمة “كُتّاب” بمشاهد خالدة من السينما والمسرح: قرية ريفية أو ضواحي صعيد مصر، شيخ جالس متربعًا، يحيط به فتيان وفتيات يتلون سورًا قصيرة، ويحملون ألواحًا خشبية نقشوا عليها أساسيات القراءة والكتابة. ورغم بساطة هذا المشهد، كان “الكُتّاب” أول مدرسة تُنير عقول المصريين النيرة، قبل إنشاء المدارس الرسمية وانتشار المناهج الحديثة.

*عودة الكتاب.. السيسي يدعم مبادرة الأزهر

في ديسمبر الماضي، اطلع الرئيس عبد الفتاح السيسي على مبادرة لإحياء تجربة الكُتّاب في مصر، خلال اجتماع موسع مع ممثلي وزارة الأوقاف. وتأتي هذه المبادرة في إطار جهود الحكومة لتجديد الخطاب الديني وتعزيز النمو المعرفي والسلوكي للشباب منذ الصغر.

جاء هذا التوجيه الرئاسي في سياق مراجعة الوزارة لخطتها لتدريب الأئمة والوعاظ، وتعزيز دور المؤسسات الدينية في ترسيخ هوية ثقافية ودينية معتدلة. في ذلك الوقت، قدّم وزير الأوقاف المسودات الأولية لمقترح لإعادة إحياء الكُتّاب، تلك الأداة التراثية التي تُشكّل الشخصية المصرية حتى في بداياتها.

وقد استؤنفت هذه المناقشة مؤخرا في 28 مايو/أيار، عندما أعلن رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي خلال مؤتمر صحفي عن توجيه رئاسي بدراسة مقترح رسمي تقدم به الدكتور أسامة الأزهري، مستشار الرئيس للشؤون الدينية، لإعادة إدخال الكتاتيب في إطار تعليمي وتنظيمي حديث.

وأوضح مدبولي أن الهدف من هذه المبادرة هو تقديم الكُتّاب كمنصات موازية لرياض الأطفال، بما يسهم في تعليم اللغة العربية والدين والحساب، فضلاً عن غرس قيم الاعتدال واحترام الآخرين والانتماء الوطني.

*مدبولي يعرض خطة التنفيذ

وأكد الدكتور مدبولي أن هناك جهوداً مكثفة تبذل في هذا الصدد، مشيراً إلى أن الكتاتيب إلى جانب المساجد والكنائس يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في هذا الصدد من خلال توفير هذه الأنواع من الفصول الدراسية، حيث أن العديد من هذه المؤسسات الدينية لديها غرف ومساحات يمكن استخدامها كمراكز لتدريس هذه العلوم الأساسية.

وأشار إلى إمكانية الاستفادة من مراكز الشباب والمراكز الثقافية وغيرها من مرافق الدولة لرياض الأطفال، حيث تعاني البلاد من عجز كبير في هذا الجانب.

وأكد أن مراجعة هذا الموضوع لها أهمية قصوى في ظل التوجيه الرئاسي بإيلاء هذا الملف اهتماماً خاصاً، حيث أن هذه المدارس لها تأثير كبير في تكوين الشخصية، ولذلك يجب اختيار معلمي هذه المدارس بعناية لمنع أي تداعيات سلبية مستقبلاً.

طه حسين… أدباء في ذكرى عميد الأدب

وثّق عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، تجاربه الشخصية في الكُتّاب في سيرته الذاتية “الأيام”، واعتبرها أولى محطات مسيرته الأكاديمية. وكتب: “لصغر سنه وبعد المسافة، حمل الكُتّاب على كتف أخيه. جلس متربعًا على الأرض بين يدي سيدنا، يلعب بالنعال المُرقعة حوله، بينما جلس سيدنا على مقعد خشبي بسيط، يُدخّن سيجارةً ويُنادي بالأسماء”. شكّلت هذه الذكريات العميقة التجربة التعليمية التقليدية قبل التعليم النظامي.

رحلة كتّاب: من الازدهار إلى الانحدار

وفقًا لدراسةٍ أجراها مبروك بهي الدين دعدار بعنوان “نشأة الكُتّاب ونمطهم وأثرهم في تعلم وتعليم القرآن الكريم – مصر نموذجًا”، نشأ تعليم الكُتّاب بعد الفتح الإسلامي لمصر عام ٢١ هـ. واعتمد الناس على جهود المجتمع والأوقاف الخيرية، مما جعله في متناول جميع شرائح المجتمع. وفي عام ١٨٤٠، قدمت الدولة دعمًا ماليًا للكُتّاب من خلال وزارة الأوقاف، ودفعت رواتب المعلمين.

إلا أن عهد الرئيس جمال عبد الناصر شهد تغييراً جذرياً عندما أدخلت الدولة مشروع التعليم المجاني ودمجت تعليم القرآن الكريم واللغة العربية في المدارس العادية.

وبحسب المركز الوطني للبحوث التربوية فإن الانتشار المتزايد للمدارس الحكومية أدى إلى تراجع الالتحاق بالكتاتيب، التي فقدت أهميتها التعليمية وأصبحت نشاطاً دينياً غير ملزم.

أسباب تراجع دور كتاب

وفقًا لدراسة أجراها المركز القومي للبحوث، يقتصر بعض الكُتّاب على حفظ القرآن الكريم دون دراسة متعمقة لتفسيره أو اللغة العربية. وهذا يجعل التعليم في هذه المدارس غير كافٍ، لا سيما في ظل نقص المعلمين المؤهلين. علاوة على ذلك، فإن نقص الدعم التعليمي والتعرض لمتطلبات العصر، كالتقنيات والتطبيقات الرقمية، يُضعف من جاذبيتهم. وأشار الباحثون إلى أن بعض الكُتّاب أصبحت بيئات معزولة فكريًا تفتقر إلى الدعم التعليمي أو الأكاديمي.

التعليم في الأزهر: روابط تمتد عبر الزمن

يوضح الدكتور نجيب عوضين، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، أن التدريس في الكُتّاب كان يُدرّس على يد شيخ يحفظ القرآن الكريم ويتقن العربية. وكان النظام نفسه مُتبعًا في حلقات التدريس بالأزهر: يجلس الطالب أمام الشيخ، ويتلقى الدروس، ثم يُمنح الإجازة.

أشار عوضين إلى تنوع الكُتّاب، من البسيطة (التي تعتمد على الدعم النقدي أو العيني) إلى الحكومية (التي تشرف عليها وزارة الأوقاف والأزهر). وأعرب عن أسفه لتراجع أهميتها، قائلاً: “للأسف، اختفت الكُتّاب من قرى كثيرة، وانخفضت معدلات الإلمام بالقراءة والكتابة، حتى بين طلاب الجامعات”.

كتاب 2025… هل تندمج الأصالة والرقمنة؟

أوضح الخبير التربوي الدكتور مجدي حمزة أن الكُتّاب (المدرسة الإسلامية) كان جوهر النظام التعليمي في مصر عبر التاريخ، حيث ساهم في تخريج عمالقة الفكر مثل العقاد وطه حسين. إلا أنه أكد على ضرورة التحديث لمواكبة العصر الرقمي، مقترحًا تدريس اللغة الإنجليزية ومهارات البرمجة إلى جانب القرآن الكريم واللغة العربية. وأضاف: “إذا اقتصرنا على حفظ القرآن الكريم، فلن نحقق تقدمًا كبيرًا. أما إذا طورنا مناهج متطورة تراعي أعمار الأطفال، فسنحدث فرقًا حقيقيًا”.

اقترح حمزة وضع خطة سنوية مدروسة لتدريب المعلمين وإعداد المحتوى قبل التنفيذ، مؤكدًا أن التسرع في العملية قد يؤدي إلى تكرار أخطاء الماضي.

وجهة نظر نقدية: هل يعتبر الكُتّاب فكرةً تجاوزت زمنها؟

تعتقد خبيرة التعليم الدكتورة بثينة عبد الرؤوف أن التعليم يتطور مع التغير الاجتماعي. وتشير إلى أن الحضارات القديمة، كمصر واليونان، مارست التعليم في المعابد والساحات قبل إنشاء المدارس والجامعات. وأكدت أن الكُتّاب (المدارس الإسلامية) في مصر ظهرت استجابةً لاحتياجات المجتمعات الريفية.

أوضحت بثينة أنه في عهد علي مبارك في القرن التاسع عشر، تطورت الكُتّاب إلى ما عُرف لاحقًا بـ”المكاتب”: وهي مؤسسات بدائية تُعلّم القراءة والحساب إلى جانب القرآن الكريم. وتساءلت: “بعد قرنين من الزمان، في عصر الذكاء الاصطناعي، ومع توجه العالم نحو التكنولوجيا، هل من المنطقي العودة إلى الكُتّاب؟”

وأكدت على أهمية تطوير التعليم ما قبل المدرسي في القرى بمرافق حديثة تجمع بين القيم الدينية والعلوم الحديثة، بدلا من العودة إلى النموذج التقليدي القديم.


شارك