بعد واقعة طفل البلكونة.. بين العنف والتربية الإيجابية كيف نربي أبناءنا؟

تداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يُظهر أبًا يعتدي على طفله ويركله في شرفة منزله بمدينة العاشر من رمضان بمحافظة الشرقية. سمعت إحدى الجارات صراخ الطفل واستغاثته، فصوّرت الحادثة بهاتفها المحمول. ونُشر الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي.
انتشر المقطع على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصل في النهاية إلى المجلس القومي للأمومة والطفولة، الذي قدّم بدوره شكوى إلى هيئة حماية الطفل. أُلقي القبض على الأب، ووُضعت الطفلة في دار رعاية.
في لقاء سابق أجرته الشروق مع والدة “طفل البلكونة”، أكدت أن الأب اعتدى بالضرب على ابنه لردعه بسبب “سلوكه المشين” الذي شمل تكرار السرقة. كما أكدت أن زوجها نصح ابنه بالتوقف عن السرقة أكثر من مرة دون جدوى. وأضافت أن الأب اعتدى عليه بالضرب في شرفة منزلهما بعد سرقة هاتف شقيقه وبيعه لشراء السجائر.
ساد جوٌّ من الجدل بين المصريين. أيّد بعضهم مصير الأب، معتبرين أفعاله عنفًا مرفوضًا يستوجب الردع. بينما عارض آخرون سجن الأب، معتبرين أنه سيُكرّس تفكك الأسرة المصرية وانعدام القيم بتهميش سلطة الوالدين على أبنائهم.
هذا يثير تساؤلات عديدة: ما هو التأديب؟ هل العقاب البدني أسلوب تأديب خاطئ، أم أنه ضروري أحيانًا لمنع السلوك السيئ؟ أليس التأديب الإيجابي رادعًا؟ يجيب التقرير التالي على هذه التساؤلات.
التفكك الأسري وغياب الرقابة الأبوية
صرحت الدكتورة إيمان نافع، أستاذة علم النفس التربوي بكلية التربية بجامعة الزقازيق، لصحيفة الشروق أن التفكك الأسري هو سبب السلوك العدواني لدى الأطفال. وتكرار سرقة الطفل المعني بالحادثة الأخيرة وتدخينه دليل على غياب الرقابة الأبوية، وخاصة من الأم. وتساءلت: “أين كانت الأم عندما بدأ ابنها، الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، بالتدخين؟”
التعليم أو الرعاية
هبة الطماوي، مستشارة أسرية وتربوية وأخصائية تعديل سلوك للأطفال والمراهقين، ومؤسسة مبادرة سلامة الطفل المصرية، ومؤلفة كتاب “تربية تفخر بها، تتجاوز وهم الكمال”، أشارت إلى أن الكثير من الآباء يخلطون بين التربية والتنشئة. وأوضحت أن التربية تتضمن غرس القيم والمعتقدات في نفوس الأطفال، وملاحظة سلوكهم وتقويمه عند الحاجة، وتلبية احتياجاتهم العاطفية والنفسية، بينما تقتصر رعاية الطفل على تلبية احتياجاته البيولوجية، كالطعام والشراب واللباس وما شابه.
وأضافت لـ«الشروق» أن تربية الأبناء واجب على الوالدين ولا أحد غيرهم يستطيع القيام بهذا الواجب، كما أن رعاية الأبناء يمكن أن يقوم بها غيرهم مقابل أجر.
ضرب الأطفال: تهديد للحياة الأسرية وبوابة للمرض النفسي
وفيما يتعلق بالعنف الجسدي الذي يمارسه الأهل تجاه أبنائهم، حذرت نافع من تكرار العنف الجسدي ضد الأطفال، والذي قد يؤدي إلى وفاتهم. وأضافت أن الإفراط في ضرب الأطفال قد يدفعهم إلى إيذاء والديهم.
أوضح التماوي أن العنف الجسدي ضد الأطفال يؤدي إلى أضرار جسدية ونفسية، وأن الكدمات والجروح الجسدية تُعالج بسهولة، بينما يبقى الألم النفسي الناتج عن الضرب ملازمًا للشخص لسنوات طويلة، ثم يتجلى لاحقًا في أمراض كالتنمر أو النرجسية.
العدوان أو الضعف
وأوضحت أن الأطفال يتعلمون السلوك الجيد أو العنيف من خلال مراقبة سلوك والديهم، وأن العنف اللفظي والجسدي ينتهك كرامة الطفل، وخاصةً عندما يحدث أمام أشخاص خارج نطاق الأسرة. وأضافت أن هذا يُنشئ نوعين من السلوك: إما شخص يُمارس العنف ضد الآخرين، كما عومل هو نفسه، أو، على العكس، شخص ضعيف عاجز عن مواجهة تحديات الحياة، ويسعى لنيل رضا الآخرين مهما كلف الأمر.
وكانت عواقب الاعتداء على الفتيات مدمرة.
وحذرت من استخدام العنف الجسدي في تربية الفتيات، واصفةً إياه بـ”الكارثة”. وأوضحت أن غالبية الفتيات اللواتي يتعرضن للضرب من قبل آبائهن يعانين من ضعف نفسي وهشاشة، ويبحثن عن رضا الآخرين، مما يعرضهن للاستغلال الجسدي والمادي.
يعكس فشل التواصل
وفي هذا السياق، أوضح نافع أن العنف الجسدي ضد الأطفال هو علامة على عدم التواصل معهم: “الطفل الذي تربى تربية جيدة يمكن ردعه بالتوبيخ؛ فهو لا يحتاج إلى الضرب”.
دوافع السلوك المنحرف
وفيما يتعلق بتصحيح السلوكيات المنحرفة المتكررة لدى الأطفال، كالكذب والسرقة وغيرهما، أكدت الطماوي على أهمية بحث الوالدين عن دوافع هذه السلوكيات بدلًا من ضرب أبنائهم. وأوضحت أن الإرشاد النفسي والأسري، رغم تكلفته الباهظة، أصبح ضروريًا في ظل التحديات الكبيرة التي تواجه تربية الأطفال اليوم.
طرق أخرى للردع
وأشارت نافع إلى أنه بالإضافة إلى تشديد الرقابة، هناك أساليب رادعة أخرى، مثل منع الطفل من مغادرة المنزل، أو مصادرة مصروفه، أو سحب هاتفه الجوال. وأوضحت أن العنف الجسدي هو الحل الأخير عند فشل الحلول السابقة، شريطة ألا يكون ضارًا.
الحب وليس الضرب
وأوضحت أن قيام الأم بدورٍ تجاه أبنائها ومعالجة مشاكلهم هو ضمانٌ لتصحيح سلوكهم الخاطئ. وأكدت أن الطفل يستجيب بفعاليةٍ أكبر عندما يُقدَّم له، إلى جانب احترام عقله، التعاطف والتفهم لمشاكله.
التربية الإيجابية لا تعني التدليل المفرط.
فيما يتعلق بمفهوم التربية الإيجابية، الذي انتشر مؤخرًا، أوضحت الطماوي أنه يعني استجابة الوالدين لاحتياجات أبنائهم النفسية والعاطفية، مما يعزز السلوك الإيجابي لديهم. وأوضحت أن انتشار الفيديوهات القصيرة حول التربية الإيجابية على مواقع التواصل الاجتماعي ساهم في محدودية المعلومات المتعلقة بها وتشتتها، مما دفع الكثيرين إلى ربطها بالإفراط في تدليل الأطفال وتدليلهم، وهو أمر خاطئ تمامًا.
تعليم القيم الدينية والاجتماعية
في هذا السياق، أكدت نافع على أهمية تعليم الأطفال القيم الدينية والاجتماعية من خلال الحوار والنقاش، مما يُسهم في تنمية عقلية ناقدة تُمكّنهم من تقييم الأفكار بموضوعية، واختيار المناسب منها، ورفض الضار. وأشارت إلى صعوبات تربية الأطفال في عصر التكنولوجيا، فمحتوى مواقع التواصل الاجتماعي غالبًا ما يكون غير مُراقَب، ويتعارض مع قيم المجتمع المصري، مما يؤثر على الأطفال ويدفعهم إلى تقليد سلوكيات خاطئة، كالتدخين والتنمر وغيرها.
تفعيل دور وسائل الإعلام والمؤسسات الدينية
وأكدت على أهمية تفعيل دور مؤسسات الدولة، ممثلةً بالمجلس القومي للأمومة والطفولة ومكتب حماية الطفل، في الحد من العنف الأسري. إلا أن ذلك يتطلب أدلةً، مثل تسجيلات فيديو للاعتداء، كما حدث في قضية “طفلة البلكونة”. وأوضحت أن هناك آلاف الحالات التي يعنف فيها الآباء أطفالهم جسديًا، دون أن تُنشر في وسائل الإعلام.
وأكدت على أهمية قيام المؤسسات الإعلامية والدينية بدورها من خلال برامج الإرشاد الأسري والبرامج التعليمية والتوعية بمخاطر العنف الجسدي ضد الأطفال. وأكدت على أهمية تقديم نماذج دينية تاريخية يُحتذى بها للأطفال في تعاملهم مع أبنائهم.
وأكدت أن التربية الصالحة لا تتطلب بالضرورة تعليمًا شاملًا، بل شخصية سليمة وفهمًا صحيحًا للدين والأعراف الاجتماعية والقيم. ويتجلى ذلك في كون الأمهات في ريف مصر يربين أطفالهن تربيةً مثاليةً رغم محدودية تعليمهن.