وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران.. مناورة ذكية من ترامب أم استراتيجية حقيقية؟

أثار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، الذي أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جدلاً واسع النطاق. يرى البعض أنه نجاح استراتيجي حاسم، بينما يعتبره آخرون خطوة تكتيكية بحتة لتأجيل صراع أوسع.
ويقول الباحث أحمد الشراعي، الناشر والإعلامي الذي يشغل منصب رئيس صحيفة وورلد هيرالد تريبيون وعضو في العديد من مراكز الأبحاث الأميركية البارزة المتخصصة في السياسة والدراسات الاستراتيجية، في تقرير نشرته مجلة “ناشيونال إنترست”، إن سياسة ترامب تجاه إيران لا تقوم على تغيير النظام بالعنف، بل على الانفصال الاستراتيجي عن النظام والتقارب المتجدد مع الشعب.
ويضيف الشراعي أنه في عصر أصبح فيه التردد مقنعا في صورة استراتيجية فإن ترامب هو الوحيد الذي تعامل مع التحدي الجيوسياسي الأخطر في عصرنا برؤية واضحة وتركيز استراتيجي ونتائج ملموسة.
وأشار إلى أنه دون استخدام قوة برية أمريكية واحدة، ودون عبء الدبلوماسية البيروقراطي، حقق ترامب ما لم يتوقعه الكثيرون: تفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية، وتطبيق وقف إطلاق النار بين إسرائيل والجمهورية الإسلامية الإيرانية. لم تكن هذه النتائج نتيجة إجماع دولي متعدد الأطراف، بل كانت حاسمة، ونُفذت بشروط ترامب.
ما يجعل هذه اللحظة أكثر لفتًا للانتباه، وفقًا للشرعي، هو كثرة الأطراف التي رضخت للضغوط. مؤسسات مثل وزارتي الدفاع والخارجية، المعروفتين بحذرهما وترويهما، اضطرت إلى اتباع إيقاع لم تضبطه. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المُلِمُّ بتعقيدات السياسة الأمريكية، أدرك أن الطريق مُرسومٌ مسبقًا. قبلت إسرائيل وقف إطلاق النار ليس لأنه كان الطريق الأسهل، بل لأن التصعيد كان يُهدد بالخروج عن السيطرة.
وأضاف المحامي “لقد أصبح واضحا مرة أخرى أن الطيار يجلس في قمرة القيادة”.
لكن نجاح أي اختراق في السياسة الخارجية لا يُقاس ببدايته، بل باستدامته. قد يكون قرار ترامب خطوةً عبقريةً، أو قد يكون لاحقًا لحظةً عابرةً. السؤال الجوهري هو: هل يُمثل وقف إطلاق النار هذا إعادةَ ترتيبٍ إقليميٍّ حقيقي، أم أنه مجرد تأجيلٍ للمواجهة القادمة؟
في إسرائيل، لاقت نتائج الهجمات ترحيبًا، لكنها لم تُعتبر حلاً نهائيًا. أبرزت الحرب ضرورة حماية استقلالية جهاز الأمن الإسرائيلي بقيادة الموساد من الآثار المدمرة للاستقطاب السياسي الداخلي. وقد لعب اختراق الموساد الخفي للبنية التحتية العسكرية الإيرانية دورًا حاسمًا في هذا المسعى. بقيادة ديفيد بارنيا، أحد أبرز الخبراء في البنية التحتية النووية والإقليمية لإيران، نجح الموساد في تحديد مسار استراتيجي لم يُسهّل وقف إطلاق النار فحسب، بل فكّك أيضًا شبكة وكلاء إيران، وغيّرت موازين القوى في الشرق الأوسط.
رغم نجاته من الدمار، تعرّض الحرس الثوري الإيراني لضربة موجعة. فقد تمّ تحييد منشآت رئيسية، وتعرّضت شبكات حيوية للهجوم، وفقد العديد من الجنود أرواحهم. ولإعادة بناء قدراته، ستتجه طهران شرقًا نحو موسكو وبكين. لكن لا روسيا ولا الصين ستقدّمان الدعم دون مقابل. ستطالب روسيا بحقوق في قواعد عسكرية ونفوذ أكبر على البنية التحتية الإيرانية، بينما ستسعى الصين إلى الحصول على امتيازات في أسواق الطاقة وممرات العبور. سيعتمد بقاء الحرس الثوري الإيراني كقوة إقليمية على تقديم تنازلات لرعاته الأجانب، وهو واقع يُقوّض استقلاليته وموقعه الاستراتيجي.
يقول الشراعي إن هذه اللحظة تُمثل فرصةً ضيقةً للاستراتيجية الأمريكية. إذا لم تتحرك واشنطن الآن، فستزداد هيمنة روسيا في إيران والقوقاز، وستتعزز سيطرة الصين على الموانئ وخطوط الأنابيب الإيرانية. ولكن بفضل الدبلوماسية الذكية والتنسيق الإقليمي – من الخليج إلى آسيا الوسطى – تستطيع القيادة الأمريكية احتواء آثار هذا التحول قبل أن يكتسب زخمًا.
رغم كل هذا، لا تزال عقيدة إيران في الحرب غير المتكافئة قائمة. لم يُنزع سلاح وكلاء إيران، من حزب الله في لبنان إلى الحوثيين في اليمن إلى الميليشيات في العراق. لم يُشملوا في أي اتفاق لوقف إطلاق النار، ولا يزالون يُشكلون خط المواجهة لطهران، مما يمنحها مرونةً وإمكانيةً للإنكار وقدرةً مُستدامةً على التهديد. لم يُغير وقف إطلاق النار شيئًا يُذكر، ومن المُرجح أن يأتي التصعيد التالي منهم.
وتفتح هذه اللحظة الباب أيضاً أمام سؤال يتجنبه كثيرون في واشنطن: “هل من الممكن تغيير النظام في إيران، وإذا كان الأمر كذلك، فبأي ظروف؟”
يقول رجل الدين إن الجمهورية الإسلامية أكثر هشاشة من أي وقت مضى. إنها منهكة اقتصاديًا، ومنقسمة سياسيًا، وتفقد شرعيتها في نظر جيل الشباب. لكن التغيير لا يتحقق بالغارات الجوية أو الشعارات؛ بل يجب أن ينبع من الداخل. وهذا يتطلب دعم الإعلام المستقل، والالتفاف على رقابة النظام الحاكم على الاتصالات، وبناء آليات اقتصادية طويلة الأمد لتعزيز المجتمع المدني. الأمر لا يتعلق بإسقاط النظام بالقوة، بل بفك ارتباط استراتيجي معه وتجديد التقارب مع الشعب. نعم، المخاطر موجودة، ولكن البديل هو الفوضى الدائمة.
من منظور استراتيجي، لا يمكن إنكار إنجاز الرئيس ترامب. فقد أوقف صراعًا قبل أن يتفاقم، وقبل أن تتدخل القوى الخارجية، وقبل أن يصبح التصعيد الإقليمي حتميًا. وقد فعل ذلك دون احتلال، ودون تنازلات، ودون جر الولايات المتحدة إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط.
ولكن السلام لا يُعلن، بل يُبنى بالصبر والانضباط، وفقاً للشريعة الإسلامية.
ويبقى السؤال: هل يمثل وقف إطلاق النار هذا توازناً إقليمياً جديداً أم مجرد استراحة قصيرة في عاصفة مستمرة؟
ويقول الشراعي إن الرد لا يعتمد فقط على إيران أو إسرائيل، بل على استعداد الولايات المتحدة وحلفائها لقيادة هذه اللحظة برؤية واضحة وانضباط وإرادة حقيقية لاغتنام الفرصة.
ويختتم قائلا: “لقد فتح ترامب الباب والآن يتعين على الآخرين المرور عبره”.