وسط ركام الأبراج المدمرة.. «إشراقة أمل» مدرسة فلسطينية من خيام وصمود

وسط أنقاض الأبراج المدمرة في مدينة حمد غرب محافظة خانيونس، حيث لا يخيم على السماء إلا دمار الحرب ورائحة البارود، وتذيب حرارة الشمس الأغطية البلاستيكية للخيام، تقع مدرسة اسمها “بريق أمل”. لم تنشأ من بنية تحتية جاهزة، بل من إرادة الشعب الذي قرر غرس المعرفة في أرض مغطاة بالرماد.
مدينة حمد: من مدينة نموذجية إلى شاهد على مأساة
كانت مدينة حمد الواقعة غرب خانيونس أحد أحدث وأجمل المشاريع السكنية في قطاع غزة. تم بناؤه بتمويل من دولة قطر، ووفر السكن لآلاف الأسر التي تبحث عن الاستقرار. ولكنها لم تنجُ من نيران الحرب. تحولت أبراجها إلى أطلال وانهار معظمها بسبب القصف الإسرائيلي العنيف الذي طال كل زاوية. وأصبحت المدينة رمزاً للنكبة الثانية ومسرحاً يومياً للدمار والألم.
على أنقاض البيوت ووسط الرماد يشرق الأمل
وبين هذه الأنقاض، وبين الأزقة الترابية التي كانت في السابق شوارع معبدة، بنيت مدرسة إشراقة أمل في خيام بلاستيكية لا توفر الحماية من حر الصيف ولا من برد الشتاء. تتآكل الخيام يوما بعد يوم، لكنها تحتوي على الحياة: حياة التعليم وحياة أولئك الذين يرفضون الاستسلام.
أسامة الجزار: من المبادرة إلى المؤسسة التعليمية
وقال أسامة محمد الجزار مدير المدرسة ومؤسسها وعضو مجلس مدينة حمد لمراسل وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا):
منذ بداية الحرب، كنا مقتنعين بأن التعليم لا ينبغي أن يتوقف تحت أي ظرف من الظروف. بدأنا كمجلس مدينة ومجلس أولياء أمور بمبادرات بسيطة تطورت مع مرور الوقت إلى مشروع متكامل انطلق في أبريل 2024. ومنذ البداية، خططنا لتكرار مبادرة التوجيهي هذا العام، تمامًا كما حدث في العام الماضي.
وأضاف: “أُنشئت مدرسة إشراقة أمل بتبرع كريم من رجل الأعمال نضال الرنتيسي، وهي مدرسة غير ربحية تخدم النازحين وسكان مدينة حمد. لدينا حاليًا 870 طالبًا من الروضة وحتى الصف السادس، و36 معلمًا جامعيًا، وخمسة موظفين إداريين، جميعهم يعملون تطوعًا ودون مقابل مادي”.
الإرهاق البدني والألم في مرحلة الطفولة
يؤكد الجزار: “أسوأ ما نواجهه هو سوء تغذية الأطفال. نسجل يوميًا حالات إغماء بين الطلاب. إنهم نحيفون، وجيوب آبائهم فارغة، وبعض الأطفال يأتون إلى المدرسة دون أن يأكلوا شيئًا، ولا حتى قطعة خبز”.
وأضاف: “حتى المعلمين أصيبوا بالإغماء من الجوع، وهو ما يسلط الضوء على حجم الأزمة التي لا تؤثر على الطلبة فحسب، بل على الجميع”.
ريهام أبو الريش.. زوجة أسير وأم تُعلّم من قلب محنتها
ريهام، أم لخمسة أطفال وزوجة أسير منذ مارس 2024، تعيش في مدينة حمد، ومتطوعة في المدرسة منذ نوفمبر من نفس العام. تقول بصوت يمتزج فيه المرارة والإصرار:
بعد أسر زوجي، اضطررتُ لمغادرة المنزل لرعاية أطفالي ومواجهة الحياة. رأيتُ أطفالًا في الشوارع محرومين من التعليم، فقررتُ تعليمهم وأولادي بنفسي، خاصةً وأنني حاصلة على شهادة في اللغة الإنجليزية.
تدرس ريهام من الروضة إلى الصف الثالث وتضيف:
يحزنني أن أراهم يصطفون للحصول على الخبز والماء. لكن عندما يتعلم أحدهم حرفًا جديدًا، أشعر وكأنني أزرع بذرة نور وسط الظلام.
سعاد الفران.. أم دفنت قلبها بين طفلين وعادت للتدريس
ومن الشهادات التي لا تنسى شهادة المعلمة سعاد نظمي الفران التي فقدت اثنين من أبنائها في مارس 2025، تقول:
تطوعت في نوفمبر 2024 لتعليم أطفال بلدي والتقرب من الله من خلال شفاء ابني أيمن. ورغم الظروف الصعبة، كان كل شيء يسير على ما يرام حتى جاء اليوم الأسود عندما قُتل ابني أيمن (13.5 سنة) وابنتي بيسان (9.5 سنة) معًا في هجوم بالقنابل الغادرة وأصيبت ابنتاي يارا وسارة. وتابعت بصوت متماسك يخفي نهرًا من الحزن:
بعد وفاتها، كل شيء في داخلي انهار. توقفت عن التدريس وبدأت أبحث عن وجهها في كل طالب. لكن زوجي وزميلاتي في المدرسة وبناتي المصابات دعموني. عدت اليوم لإكمال ما بدأته: تعليم أطفال الآخرين كما لو كانوا أطفالي.
تغريد الداعور: أرملة الحرب التي اختارت طريق النور
تغريد، أم لخمسة أطفال، فقدت زوجها في مارس/آذار 2024 في هجوم عشوائي بالقنابل على شارع النخيل. وصفت الحادثة قائلةً: “كان يوم جمعة، وكانت أخته تقيم عندنا. خرج لشراء دجاج ولم يعد. قُتل مع أربعة آخرين في هجوم بقنبلة على المدينة”. ثم جاءت إلى المدرسة بعد بضعة أشهر وقالت:
أردت أن أمنح أطفال مدينة حمد التعليم بدلاً من تركهم في الشوارع. أردت أن أستخدم حزني بحكمة وربما أجد يومًا ما وظيفة تساعدني في تربية أطفالي. ولكن الأهم من ذلك كله أنني أردت أن أنقذ نفسي من الظلام.
من الخيمة إلى المدرسة…من الرماد إلى المستقبل
وقالت صبحية أبو الخير، إحدى مديرات المدرسة، لمراسل وفا:
نحن نعمل في فترتين، كل فترة تستمر ساعتين فقط. بسبب ارتفاع درجات الحرارة والجوع، لا يستطيع الأطفال البقاء لفترة طويلة. تفتقر المدرسة إلى أبسط مقومات الحياة: لا كهرباء، ولا مكاتب، ولا حتى دورات مياه كافية، إذ يوجد دورة مياه واحدة فقط للجميع.
وتابعت: “تسعى بعض المؤسسات إلى تقديم الدعم النفسي للطلاب. لدينا عشرة طلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة، ورغم كل التحديات، نعمل على دمجهم. هذه المدرسة ليست مجرد مكان للتعليم، بل هي ملاذ إنساني ونفسي”.
وتوضح الأرقام التي أصدرتها إدارة المدرسة حجم المأساة التي حلت بهذه الخيام. ومن بين أمور أخرى، تم نشر الأرقام التالية:
54 طالباً من أبناء الشهداء
19 طفلاً من أبناء السجناء
نجا ثلاثة أطفال من المجازر التي قتلت عائلاتهم بالكامل.
10 معلمين فقدوا أقاربهم في العدوان
“بصيص أمل”… اسم لا يكذب
في غزة، حيث الظلام أكثر من النور، تنهض المدارس أحيانًا من الرماد.
“بصيص أمل” ليس مجرد خيام بلاستيكية، بل هو فكرة ولدت من الإصرار، ونبعت من قلوب الأمهات الثكالى والآباء المسجونين والأطفال الذين لا يعرفون عن العالم سوى التفجيرات والطوابير… ولكنهم يتعلمون.